بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    التنويه بإقالة المدرب العامري من العارضة الفنية للمغرب التطواني    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    مجلس الأمن: بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    مباراة الزمامرة والوداد بدون جماهير    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة تكوين الحكومة ومبررات تعديل الدستور
نشر في اليوم 24 يوم 24 - 03 - 2019

هل استمرار العمل بدستور 2011 سيزيد من إمكانية تكرار حالة “البلوكاج” السياسي في الاستحقاقات التشريعية المقبلة؟ سؤال أصبح يطرح بحدة هذه الأيام، مباشرة بعد إعفاء رئيس الحكومة السابق، عبدالإله بنكيران، بطريقة قِيل عنها إنها تمت بغير سند دستوري، وهو ما أجّج خلافات سياسية حادة، وصلت إلى حد المطالبة بتعديلات دستورية لمسطرة تعيين الحكومة وإقالتها من طرف الملك.
هذا، وانقسم الفاعلون السياسيون بسبب هذا الخلاف السياسي حول الدستور إلى تيارين. تيار يرى بأن ملء الفراغات الدستورية التي خلفها دستور 2011 وتعديله، هو ممارسة دستورية عادية تندرج في سياق التطور الدستوري. ومن ثم، فمراجعة الدستور تشكل إحدى الإمكانات المهمة لترسيخ المسار الديمقراطي وفق قواعد التعددية والتناوب. لأن التعديل الدستوري من شأنه أن يفتح الباب على إمكانات فعلية لإعداد التحالفات الحكومية وفق مقاربات وهندسة معقولة، عوض السقوط في تكوين الحكومات بشكل هجين وبمنطق الإرضاء وتضخيم الحقائب والتسميات، على حساب الحكامة السياسية والتدبيرية. وتيار آخر، رافض لأي تعديل، يرى في ذلك دعوات “مقنّعة” تخفي رغبة أكيدة للمس بالخيار الديمقراطي.
فحتى تكون مراجعة الدستور ذات معنى، عليها أن “تعبر عن إرادة الأمة، وتنظيم وتوزيع السلط، وتحقيق التوازن والتعاون والتكامل فيما بينها، ومعالجة الاختلالات وسد الفراغات المسجلة، بما يقلص هامش التأويل الذي يمكن الاستناد عليه، لإفراغ النص الدستوري من مضمونه وجعله بدون روح”.
بالنسبة إلى محمد الزهراوي، أستاذ القانون الدستوري بجامعة القاضي عياض، فإن تعديلا دستوريا، بات يفرض نفسه في المرحلة الراهنة، خاصة وأن سؤال الانتقال الديمقراطي بات معلقا، وباتت معه الرهانات والانتظارات مؤجلة، لاسيما في ظل بروز تحديات جديدة تستدعي تجديد الحقل السياسي وضخ دماء جديدة في المسار الديمقراطي الذي دشنه المغرب منذ سنوات.
إن فتح النقاش حول الوثيقة الدستورية، خاصة فيما يتصل بالعلاقة بين المؤسسة الملكية والحكومة انطلاقا من التجربتين الحكوميتين الأولى والثانية، يعتبر ضروريا وصحيا وإيجابيا لتطوير الممارسة الديمقراطية، خاصة في ظل بروز أصوات تطالب الملك بالتدخل لتجاوز الأزمة المؤسساتية غير المعلنة وعجز الحكومة عن إيجاد حلول عملية لاحتواء وامتصاص الغضب الشعبي المستشري بشكل يثير القلق ويضع تساؤلات عدة حول دور ومصير الوسائط (الأحزاب، النقابات، البرلمان، الحكومة…)، في ظل فشلها وضعفها وعدم قدرتها على التفاعل واحتواء الشارع (أحداث الحسيمة، جرادة…).
لكن الملاحظ أن النقاش الدستوري بالمغرب في الآونة الأخيرة صار موجها نحو فكرة مركزية تهم “مجالات وحدود التدخل الملكي مؤسساتيا وسياسيا ودستوريا”، وقد أخذ هذا النقاش أبعادا أخرى، أبعادا ترتبط بالشكليات القانونية والدستورية، حيث صار البعض يشهر الوثيقة الدستورية لسنة 2011 في كل مناسبة تثار فيها علاقة الملك بالحكومة وحدود وصلاحيات ومجال تدخل كل مؤسسة، بحيث يمكن الحديث عن فريقين في التجربة المغربية: الأول، يتبنى القراءة الواقعية التي تستحضر موازين القوى وتقفز على المحتوى والشكليات، في حين يعتمد الفريق الثاني، على القراءة النصية الحرفية الشكلانية التي ترتكز على الفصل الصارم بين المؤسستين عند قراءة النصوص الدستورية.
في هذا الصدد، يعتبر عبدالحميد بنخطاب، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس، دعوات تعديل الدستور، دعوات سياسوية تصدر من طرف بعض الأحزاب السياسية التي تعتقد أنه لو غير هذا الفصل لتوسعت حظوظها للحصول على مكاسب داخل التشكيلة الحكومية. وحسب بنخطاب، فالفصل 47 من الدستور، تمت صياغته وفق سياق وشروط تتجاوز الأحزاب السياسية، كان الهدف منه هو تدقيق عملية تعيين رئيس الحكومة من طرف الملك، انطلاقا من الحزب الذي حصل على المرتبة الأولى في الانتخابات، إلا أنه بعدما دخل المغرب مرحلة مفاوضات عسيرة أدت إلى “البلوكاج”، الذي عطل تشكيل الحكومة، اعتبرت بعض الأحزاب أنه مورس عليها نوع من الحيف انطلاقا من تطبيق المقتضيات الدستورية لهذا الفصل، والحال أنه ليست له علاقة مباشرة بحزب أو بآخر، فقد تمت صياغته بشكل مطلق، على اعتبار أن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر الانتخابات.
فالدفع بتعديل هذا الفصل لمنح الحق للملك أن يعين من الحزب الذي حصل على المرتبة الثانية انتخابيا، إن تعذر على رئيس الحكومة المعين تشكيل حكومته، هو دفع مقبول، لكنه في حقيقته مرهون بحسابات سياسوية يجب أن يتجاوز منطق الصراع.
إن كان من نية لتعديل هذا الفصل، فيجب ألا يرتبط بمطلب حزب دون آخر، بل يجب التوافق حوله. ف”البلوكاج” الحكومي، الذي حصل لبنكيران، لم يخلق أزمة سياسية من الناحية الدستورية، بل إن الإشكال الذي طرحه الفصل 47 من الدستور هو العامل الزمني الذي استغرقته تكوين الحكومة، إبان “البلوكاج”، والذي تجاوز الحد المعقول، وكان لزاما أن تكون هناك حدود دستورية، لكي يتم تحديد الهامش الزمني للمشاورات لكي لا يتجاوز ثلاثة أشهر. فالدعوات الرائجة لتعديل الدستور لا تحتمل التأويل، وإذا كانت هناك من رغبة في إجراء أي تعديل، فينبغي أن تكون هناك إرادة مشتركة بين جميع الفاعلين، معارضة كانت أو أغلبية.
إلا أن بنخطاب يرى بأن تعديل الدستور ليس أمرا مستحيلا، على اعتبار أن الوثيقة الدستورية ليست مقدسة، فهي وثيقة من صنع البشر يمكن تعديلها متى ارتأى الفاعلون السياسيون أن ذلك ممكنا وواجبا.
أستاذ القانون الدستوري بجامعة محمد الخامس، يعتقد أنه بعد ثماني سنوات من وضع دستور 2011، ليس هناك من مبرر سياسي يستوجب تعديله بسرعة، لأن من بين المؤشرات الأساسية لنجاح أي دستور هو استقراره، فهو أمر أساسي تتطلبه الممارسة الدستورية السياسية السليمة. فمن شأن التأويل الصحيح أن يقوي الوثيقة الدستورية، كما من شأن التأويل غير السليم أَن يقوضها ويضعفها ويفقدها مشروعيتها، ومن ثم يصبح تعديلها أمرا ضروريا.
ومن هنا يرى بنخطاب، أنه في حال توسع نقاش التعديل الدستوري ليصبح نقاشا مشتركا بين جميع الفاعلين السياسيين، آنذاك يصبح معه تعديل الدستور أمرا سهلا، خصوصا وأن مسطرة تعديل الدستور داخل البرلمان ليست معقدة بالدرجة التي يستحيل معها إجراء هذا التعديل، الذي يبقى واردا فقط، بل يجب ألا تكون مرهونة بالنقاش السياسوي والفئوي لحزب دون آخر.
فدستور 2011، هو كباقي الدساتير يمكن أن يفسر ويُأوّل كما يشاء الفاعلون السياسيون، بمعنى أن المحدد الأساسي لنجاح الوثيقة الدستورية ليس هو الدستور نفسه، مادام أنه من صنع البشر، فهو وثيقة جامدة خارج أي تأويلات يمكن أن يمنحها الفاعلون السياسيون للمقتضيات الدستورية، ومن ثم نجاحها مرهون بتملك الفاعلين لهذه المقتضيات أثناء تأويل ديمقراطي لأي نص دستوري. فإذا كان الفاعلون السياسيون متشبعون بالقيم الديمقراطية، فحتى هذا الدستور، وعلى الرغم من علاته، هو دستور مقبول في الوضعية السياسية الراهنة، ويمكن أن يكون إضافة نوعية في المسار الدستوري المغربي ويدفع بالممارسة السياسية نحو الأمام، ويبقى أن أي دستور هو محتاج إلى تجويده للأفضل، في اتجاه تفعيل المبادئ والقيم الديمقراطية، لكن إذا لم يتملك الفاعلون السياسيون هذه المبادئ التي أتى بها الدستور والقيم الديمقراطية التي تفسر بها مقتضياته، فحتى لو كان دستور 2011 جيدا، فهو بفعل هذه التأويلات يصبح غير ديمقراطي وسيرجع إلى الوراء لأن السياسيين لم يتملكوه بعد.
بالنسبة إلى الباحث الدستوري، فإن الحل السياسي الذي يدعو إلى إجراء تعديل دستوري، ليس هو الحل للخروج من الأزمة التي أطلت برأسها، بل لا بد على الفاعلين السياسيين، من هضم واستدخال (intérioriser) المقتضيات الدستورية، والدفع في اتجاه تحسينها وتجويدها عبر الممارسة أولا، وفِي حال استحالة وجود ممارسة دستورية سليمة، يتعذر إنتاجها على هامش الدستور، حينئذ يصبح تعديل الدستور أمرا مشروعا من أجل تقعيد المقتضيات الدستورية.
مطالبة المعارضة بالتحكيم الملكي وتعديل الدستور، هو موقف سياسي يعكس عدم قدرتها على رسم المعالم الأساسية للمقتضيات الديمقراطية التي أتى بها الدستور، من أجل إنتاج ممارسة دستورية تحترم الديمقراطية. فلا يمكن مطالبة الملك بتعديل دستوري بشكل انفرادي من طرف حزب دون آخر، لأنها تبقى دعوة دستورية ينبغي أن تطرح بشكل جماعي من جميع الأطياف السياسية.
المحامي عبداللطيف وهبي، يرى أن هندسة النص الدستوري تتفاعل مع الواقع دون أن تخضع له، حتى لا تصبح هندسته أسيرة وضع سياسي ظرفي، فالدستور لا يوضع للمرحلة التي يصاغ فيها، ولكنه يوضع لبناء مرحلة زمنية طويلا مستقبلا، ومن ثم، فإنه يستند على رؤية فلسفية وأخلاقية قد يطالها الغموض، فقط، لأنها لا تغرق في تفصيلات وتدقيقات قانونية من شأنها أن تجازف باختزال دلالته. فعملية تفسير الدستور يفترض فيها أن تكون وسيلة لحوار سياسي تساهم فيه جميع الأطراف التي من واجبها ألا تستحضر معطيات المرحلة الظرفية والمكسب السياسي الآني، ولكن من واجبها أيضا، حسب وهبي، أن تراعي تفسيره ضرورة الحفاظ على تلك الهندسة الدستورية وتثمين دور كل مؤسسة على حدة لتكون فاعلة بشكل إيجابي في الحفاظ على المكتسبات الدستورية، التي توافق عليها المغاربة عند تصويتهم على الدستور لحظة الاستفتاء.
فالأحزاب السياسية التي تتصارع دستوريا تقوم بدور الوسيط بين الدستور والمغاربة، ويتم تفسير النص بناء على القيم والتوافقات التي التزم بها الجميع شعبا ومؤسسة ملكية وأحزابا في لحظة التصويت على الدستور، مما ينتج عنه حسن أداء المؤسسات الدستورية وتجنب شللها واتقاء الأزمات السياسية.
في اعتقاد وهبي، فحين ترتفع أصوات سياسية ملوحة بأننا نعيش مرحلة تتسم بالأزمة السياسية، فهي تصدر أحكاما ساذجة مفادها أن سبب الأزمة نابع من طبيعة الفصل الدستوري، من منطلق أن كل واحد يقرأه، بناء على نتيجة يستهدفها مسبقا وليس محاولة فهم النص الدستوري من خلال ربطه بفصول أخرى بإعمال النزاهة الفكرية بعيدا عن منطق الربح أو الخسارة، دون الانزواء في مصلحة مرحلية لاقتراح فهم انفراجي للنص الدستوري، وخلاف ذلك، ما هو سوى تقزيم للفصل الدستوري يخدم جيلا سياسيا مرحليا، يؤكد وهبي. وفي الوقت نفسه، يصنع أزمة سياسية تمتد في التاريخ وفي السياسة. لذلك، فالسياسيون المغاربة وهم يفككون حاليا معضلة أزمة تشكيل الأغلبية الحكومية، غالبا ما يقفون على منطوق الفصل 47 من الدستور دون قراءته في تقاطع مع مكونات الفصل ذاته، ومع فصول أخرى.
وهي القراءة التي تفيد بأن الدستور يتضمن مجموعة من القواعد الأخرى، غير المكتوبة، والتي تجعل تفسير أي فصل دستوري يفرض الأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين الدستور والواقع، بنوع من السمو السياسي، وأما الحسابات الظرفية التي تحاول تقنين نص دستوري من أجل مكسب ظرفي قد يحد من سلطات وتحركات رئيس الدولة سيعرقل دوره الدستوري في السهر على حسن سير المؤسسات الدستورية، من خلال تقزيم هذه الآلية التي هي وسيلة مُثلى لحل الأزمات مستقبلا.
في مقابل هذا الرأي، الذي يقدمه وهبي، فهل هناك من مبررات موضوعية حقيقية تستدعي إثارة الجدل حول راهنية الإصلاح الدستوري، وهو السؤال الذي حملناه إلى الباحث السياسي عبدالمطلب أعميار، أحد المتحمسين لتعديل الدستور، والذي يعتبر النقاش العمومي حول المسألة الدستورية، أنه ليس من الطابوهات، ولا من المواضيع المحرمة أو المزعجة، ولا من قبيل الدوائر المغلقة التي تتطلب “الضوء الأخضر” للخوض فيه، فقد أصبح من صميم المجال التداولي العام، بكل أبعاده السياسية والمؤسساتية والتشريعية. فمباشرة بعد المصادقة على دستور الفاتح من يوليوز 2011، انتقل النقاش السياسي حول المسألة الدستورية من الترافع المطلبي لإقرار دستور ديمقراطي، إلى خطاب ترافعي جديد، تشترك فيه أغلب الحساسيات السياسية، خطاب بدأ يطالب بتفعيل الوثيقة الدستورية.
وهو انتقال يؤشر، حسب أعميار، على تحول في الخطاب السياسي، يوازيه تحول في طبيعة منظومة الحكم. وبغض النظر عن بعض المواقف المعلنة إزاء الدستور الجديد، فإن الاتجاه العام الذي ارتسم في الخطاب السياسي الجديد يرتبط بأجرأة الوثيقة الدستورية. لذلك، أجمعت العديد من الصيغ اللغوية على هذا المطلب (التنزيل- التفعيل- التطبيق – الأجرأة…)، الذي يترجم إحدى السمات البارزة لمغرب ما بعد 20 فبراير بعد إقرار المنهجية الديمقراطية بموجب الفصل 47 من الدستور، والتي أفضت إلى تنصيب حكومة عبدالإله بنكيران، ومن بعدها حكومة العثماني. غير أن هذا المسار السياسي لمغرب ما بعد 2011 سيعرف فرملة واضحة لمنطوق الوثيقة الدستورية الجديدة، وتعطيلا للعديد من المقتضيات، بل وتراجعات على مستوى الدينامية السياسية التي أفرزت هذه الوثيقة. فهل يكفي أن يتحقق التعاقد الدستوري لكي نطمئن على حاضر ومستقبل البلاد؟ يتساءل أعميار، ومن ثم، ما هي الآثار الإيجابية المترتبة عن دستور 2011؟ وهل ساهم حقيقة في إحداث القفزة النوعية في أداء النخب، والمؤسسات، ونظم الحكامة؟
من جهة أخرى، يعتبر أعميار أن التساؤل اليوم، عن الحصيلة السياسية والدستورية للمرحلة الفاصلة ما بين يوليوز 2011 ومارس 2019، من الأسئلة الجوهرية في المرحلة الراهنة، نظرا إلى التطورات التي شهدها المغرب منذ إقرار دستور 2011، وإلى غاية اللحظة الراهنة.
فإذا كانت مدة 8 سنوات في تاريخ الشعوب قد لا تشكل مرحلة طويلة لإقرار التراكمات التاريخية الإيجابية، فهي مرحلة زمنية كافية، خصوصا وأنها تحمل العديد من المؤشرات التي تسمح بقراءة الأوضاع العامة للبلاد في علاقتها بالمسألة الدستورية عموما، وفي علاقتها بالمجال السياسي كفضاء عام يسمح باستقراء طبيعة الديناميات المسجلة أو المرجوة، وكذا حجم الإخفاقات المتراكمة ومدى تأثيرها على الخيار الديمقراطي.
وحسب أعميار دائما، فإن تقييم حصيلة المسار الدستوري والدعوة إلى فتح نقاش عمومي من أجل تعديل الفصل 47 من الدستور، تستجيب لضرورة موضوعية تسمح بإخراج هذا المقتضى الدستوري من صيغته المطلقة التي تقيد الملك بتعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي يتصدر نتائج الانتخابات التشريعية. وهذه الإطلاقية لا تسمح بتصور إمكانات دستورية أخرى في حالة فشل الشخصية التي يعينها الملك في تشكيل الحكومة. وهو ما عاشه المغرب بعد فشل رئيس الحكومة السابق عبدالإله بنكيران في تشكيل الحكومة، ومن ثم، فإن تعديل هذا الفصل من الدستور يعطي إمكانية لإقرار سيناريوهات ممكنة في حالة فشل الحزب الذي يتصدر الانتخابات في تشكيل الحكومة، من شأن هذا التعديل أن يطلق ديناميات جديدة في الحقل السياسي.
في مقابل هذا الرأي الذي يطرحه أعميار، يرى المحامي عبداللطيف وهبي، أن الزمن السياسي له دلالته في الممارسة السياسية، كما له دور رئيس في توضيح كنه فصول الدستور، أما الأزمات السياسية، فهي اللحظة التي يكون فيها الحوار مطلبا ومسؤولية من أجل الحفاظ على الدولة وتقوية بنائها، ولا يعقل أن نغير الفصول الدستورية بعد كل أزمة قانونية أو سياسية، لكون السياسة في آخر المطاف هي مجموعة من الأزمات التي تحتاج إلى حلول تستعمل فيها القدرات الذهنية كما النصوص الدستورية، خاصة وأن السياسي لا تكون غايته هي ممارسة السلطة في حد ذاتها، بل استقرار مؤسسات الدولة، وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى تعديل قوانين كل يوم، ولكن في حاجة إلى سلطة دائمة في العمل، لتضمن استمرارية الدولة.
وبناء على هذا التحليل، يرى وهبي أن الذين يدعون إلى تغيير الدستور، إما أن نظرهم قصير لا يتجاوز حدود أقدامهم، يسعون إلى تحقيق مصالح ظرفية، أو حتى البحث عن حل لأزمة ذاتية، وأما الآخرون، الذين يعتقدون أن أي تغيير للدستور هم المقصودون به، فيبدو أن غرورهم أنساهم أن الدستور ليس هو ظهر الحمار الذي يوصل إلى الحكومة دائما، فالدوام لله حتى في السياسة، وللديمقراطية لحظات رفعة، كما لها محطات انهزام.
ولأن الدستور ليس مُزحة أو رغبات نفسية، أو حتى مكسبا ذاتيا بقدر ما هو مكسب جماعي، فإن الفصل 47 الذي يثير لُعاب البعض من أجل السفسطة كما يصفها وهبي، يجد تفسيره ضمن هندسة دستورية عامة يفسر بها وتفسر به. لذلك، فهو يعتقد أن على الجميع أن يكف لسانه ومواقفه عن الدستور، وأن يترك للحركية السياسية شرعيتها من أجل تفسير الدستور وتطويره، فالدستور قضية ملك وشعب ودولة، ومن ثم يرى بأنه ليس هناك من ضرورة أو حاجة إلى تعديل الدستور في الوقت الحالي، بل سيكون المساس به خطأ وتراجعا فضيعا عن الاستحقاقات والمكاسب التي حصل عليها المغاربة في توافق تام مع الملكية، وهذا التوافق هو أساس بناء هذه الأمة.
تعديل الدستور من طرف الملك أمر وارد
التعديل الدستوري أمر وارد جدا ولا شيء يمنعه، حسب منطوق الدستور نفسه. عبدالرحيم العلام، الباحث في القانون الدستوري وعلم السياسة، يعتقد أن العلاقة بين البرلمان والملك لا تقتصر على التشريع العادي والجوانب التدبيرية، بل إن العلاقة تمتد إلى مستوى مراجعة الدستور، إذ يمكن للملك، حسب الفصل (174)، أن يَعرض على البرلمان مراجعة بعض مقتضيات الدستور، حيث “يصادق البرلمان، المنعقد، باستدعاء من الملك، في اجتماع مشترك لمجلسيه، على مشروع هذه المراجعة، بأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتكون منهم”.
فالملك يصبح هنا صاحب مبادرة في تعديل الدستور، وهو الذي يطلب من البرلمان الاجتماع من أجل البت في مبادرته، وهذا تحوّل ملموس على مستوى السلطة التأسيسية الفرعية. فالملك، حسب هذا الفصل، يمكنه أن يعدّل الدستور بدون الرجوع إلى الشعب عبر استفتاء، وإنما يكتفي بمصادقة البرلمان، بينما لا يحق للبرلمان أن يعدل الدستور إلا بشروط صارمة، مع إلزامية عرضه على الشعب في استفتاء عام (الفصل 173).
قبل الاستطراد في هذه النقطة، يقترح العلام أن نستعيد جانبا من التاريخ الدستوري المغربي في ما يتصل بهذه المسألة، فلقد نص دستور 1962 في بابه الحادي عشر، على أن مبادرة مراجعة الدستور تبقى من الاختصاص المشترك للوزير الأول والبرلمان، وذلك باتباع المسطرة الآتية: التقدم بطلب مراجعة الدستور حق يتمتع به الوزير الأول والبرلمان (الفصل 104)، مشروع المراجعة يضعه المجلس الوزاري ويجب أن يكون محل مداولة من طرف المجلسين (الفصل 105)، واقتراح المراجعة يجب أن يتخذه كل المجلس، وذلك بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم المجلس (الفصل 106)، ومن تم تصير المراجعة نهائية بعد الموافقة عليها بالاستفتاء (الفصل 107).
ولم يختلف هذا الوضع، يوضح العلام، إلا مع التعديل الدستوري لسنة 1970، الصادر بعد حالة الاستثناء، حيث عادت المبادرة إلى الملك أو إلى ثلثي مجلس النواب، شريطة اقتراح المراجعة على الملك، والتي لن تكون نهائية إلا بإقرارها عبر استفتاء، وهو الأمر نفسه الذي تكرّس من خلال التعديلين الدستوريين لسنتي 1972 و1992، إذ أعطيا للملك ولمجلس النواب حق اتخاذ المبادرة لمراجعة الدستور. وهي المسطرة ذاتها التي احتفظ بها تعديل 1996، حيث ظلت المبادرة مشتركة بين الملك والبرلمان.
بناء على استخلاص نتائج هذا التحليل يوضح العلام، أنه أصبح للملك في الدستور الحالي، خلافا لكل التعديلات الدستورية السابقة، حق عرض تعديل بعض بنود الدستور على البرلمان، وإذا صادق عليها الأخير تصبح سارية المفعول من دون عرضها على الشعب في استفتاء، وإنما فقط عبر مراقبتها من قبل المحكمة الدستورية حسب الفصل 147. في مقابل ذلك، فإن مسطرة المبادرة المخولة للبرلمان، قد تم تَسْييجها بمجموعة من القيود مستحيلة التحقق، حيث لا تصح “الموافقة على مقترح مراجعة الدستور الذي يتقدم به عضو أو أكثر من أعضاء أحد مجلسي البرلمان، إلا بتصويت أغلبية ثلثي الأعضاء، الذين يتألف منهم المجلس”، وهو المقترح الذي سيصادق عليه مجلس المستشارين، الذي وجب أن يوافق عليه بنفس أغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم، وإلزام عرض مبادرة رئيس الحكومة على المجلس الوزاري، واشتراط الموافقة الملكية عبر ظهير، من أجل عرض مشاريع ومقترحات مراجعة الدستور على الاستفتاء، وهو ما يجعل أمر مراجعة الدستور أمرا محتكرا لدى المؤسسة الملكية.
عبدالرحيم العلام، يرى بأن تمكين الملك من حق مراجعة الدستور عبر البرلمان من دون عرضه على الاستفتاء، لم يقابله منح الحق نفسه بالنسبة إلى البرلمان وإلى رئيس الحكومة. فضلا عن أن الدستور يكفل للملك أن يستفتي الشعب مباشرة حول مراجعة بعض بنود الدستور دون موافقة البرلمان على ذلك، مما يجعل هذا الأمر تهديدا للبرلمان نفسه، فمثلا، لو رأى الملك أن البرلمان غير منضبط لتوجهاته بإمكانه أن يعرض على الاستفتاء الشعبي مشروع مراجعة البنود الدستورية التي من شأنها الحد من صلاحيات هذا البرلمان.
مع دستور2011، سيتكرس الاختيار الدستوري في نظر العلام كحلقة جوهرية ضمن حلقات إصلاح المنظومة السياسية بالمغرب. فالوثيقة الدستورية الجديدة ستُدخِل الفرقاء السياسيين إلى مختبر “التأويل الديمقراطي”، بما يعنيه من صراع بين مرجعيات وخيارات ورهانات مختلفة. ولعل هذا ما يفسر جوهر الصراع الذي وسم العديد من الملفات المطروحة في أجندة استكمال القوانين التنظيمية، وكذا على مستوى تفعيل مقتضيات الدستور في العديد من المجالات.
غير أن المسار الدستوري اليوم، لم يعد يطرح فقط، سؤالَ “التنزيل”، يوضح العلام، بل أضحى يطرح وفي الجوهر، إشكالية السياسات العمومية المتعارضة أصلا مع روح الوثيقة الدستورية. فإذا كانت الوثيقة الدستورية تشكل أرضية تعاقدية، وتكثف أهم الاختيارات، والتوجهات، والوظائف المرتبطة بسير المؤسسات، فهل من المقبول أن يتم إقرار سياسات عمومية تتعارض مع هذه الاختيارات والتوجهات، من قبل الحكومات المنتخبة؟
وإذا كان دستور 2011، قد نقل المغرب من سنوات الصراع حول منظومة الحكم، إلى إعمال مطلب الحكامة، فما معنى إذن، أن يتم إقرار سياسات عمومية تضرب العديد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المنصوص عليها دستوريا (ضرب مجانية التعليم- رعاية الدولة للقطاعات الاجتماعية…).
ويتساءل العلام، أي معنى سيكتسبه التعاقد الدستوري في ظل التراجعات التي تضرب في الجوهر أسس هذا التعاقد؟ فالصراع اليوم، حول تشكيل أي حكومة جديدة لا ينبغي بأي شكل من الأشكال أن يفرغ الدستور المغربي من مضامينه الحقوقية بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وأن يختزل منظومتي السلطة التنفيذية والتشريعية في صراع حول التموقعات السياسية بعيدا عن الجوهر التعاقدي للدستور، وبعيدا عن مستلزمات بناء دولة العدالة الاجتماعية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.