في المُجمل، ليس ثمة مفاجأة في عرض كريستين لاگارد حول «بناء المستقبل»، الخميس الماضي، أمام المجلس الاقتصادي والاجتماعي. الوزيرة الفرنسية السابقة استعرضت الخُلاصات الأساسية لعقيدة صندوق النقد الدولي، حول النمو والتشغيل: مركزية الاستقرار الماكرو اقتصادي. التوازن الاقتصادي والاجتماعي مرتبط بالأدوار الجديدة للدولة كضابط ومقنن محايد. الدولة لم تعد في حاجة إلى التدخل في كثير من القطاعات العمومية. بين هذه الوصفات ووصايا المؤسسات المالية في الثمانينيات، مسافة ملحوظة، وراءها كثير من التحولات في النظرية الاقتصادية وفي الواقع الاقتصادي والدولي، اليوم فإن دعوة صندوق النقد الدولي، لا تحمل طابع الحدة نفسه في التعاطي مع النفقات العمومية الاجتماعية مثل الصحة والتعليم، وعوض الحديث عن الحسم مع القطاع العام، هناك اتجاه لإعادة انتشار التدخل الدولتي. منذ سنوات المؤسسات المالية الدولية غيّرت الاتجاه من شعار «دولة أقل» إلى شعار»دولة أحسن»، الأمر لا يعني بتاتا أننا أمام انقلاب إيديولوجي في المرجعية المذهبية لهذه المؤسسات، لكنها تحاول أن تتجاوز قليلا مرحلة التطرف النيوليبرالي. الصديق والأستاذ محمد الساسي، في مقاله الأسبوعي بجريدة «المساء»، الصادر في نفس يوم الخميس، تطرق لإشكالية العلاقة بين الدولة والنظام، في المغرب، وبين الملكية والمخزن، وتساءل عن إمكانية تخلص وتحرر الملكية من المخزن لتأمين شروط الانتقال الديمقراطي، موضحا أن هناك خلافًا، حول قضية العلاقة بالنظام القائم وحول ما إذا كانت مهمة تحريره من عمقه المخزني ممكنة أم لا. وبعبارة أخرى، هناك من يقول إن النظام (ونعني به شكل النظام) لا يمكن فصله، مستقبلاً، عن المخزن (ونعني به «مضمون» النظام)، وهناك من يقول بإمكان هذا الفصل وبمشروعية خوض تجربة السعي إليه. لكن هل ثمة علاقة بين وصايا لاگارد وأسئلة الساسي؟ الواقع أن مضمون هذه العلاقة، يرتبط بالسؤال الذي طالما طرحه الباحثون في علم السياسة، وفي الاقتصاد السياسي، مغاربة وأجانب، حول التأثير الممكن لتحولات الطبيعة الاقتصادية للدولة على جوهرها السياسي؟ وهل سيقود مسلسل التخلي التدريجي عن القطاع العام لإضعاف المخزن؟ لم يستطع الباحثون والمفكرون الذين اشتغلوا على موضوعة «الدولة» في المغرب، بمقاربات التاريخ والاجتماع، أن ينتصروا لفرضية المحدد الاقتصادي الحاسم في بناء الدولة وتشكلها، خاصة مع وقوفهم على عوامل أكثر تأثيرا في هذا البناء والتشكل، لكنها عوامل ثقافية وفكرية، بل ودينية أسهمت في صيرورة ولادة هذا الكيان الدولتي القديم والراسخ داخل التربة المغربية. والمؤكد أن هذه الولادة بعمقها التاريخي، قد منحت لظاهرة «الدولة المغربية» خصوصية قوية سيقف عليها الجيل الأول للاقتصاديين المغاربة عندما حاولوا تحديد طبيعتها، حيث ارتبط هذا التوصيف بإشكالية تداخل الاقتصاد والسياسة، وهي الإشكالية التي سيتم تطويرها من خلال أعمال الجيل الثاني من الاقتصاديين. ورغم أن التباس العلاقة بين التحول الاقتصادي والتغيير السياسي، ظل إحدى الخلاصات الأكثر ترددا في علم السياسة بالمغرب، منذ كلاسيكيات الأبحاث الأولى «لواتربوري» أو «ريمي لوفو»، والمتمثلة في ما يعرف ب«أطروحة الجمود»، والتي تلخص بذلك الاقتران السحري بين التحولات الاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية وبين الثبات والجمود على المستوى السياسي. فإن الكثير من الباحثين طوروا فرضية اعتبرت أن ما وقع في المغرب منذ بداية التسعينيات من تحولات اقتصادية، ارتبطت بتفكيك القطاع العام والخوصصة، والتخلي عن الالتزامات التدخلية للدولة، من شأنه أن يؤثر بشكل قوي على التحول السياسي، حيث يصبح مسلسل الليبرالية الاقتصادية قادراً بشكل جدلي على تدعيم مسلسل الليبرالية السياسية. كما أن «أزمة الموارد» التي لاشك ستعيشها الدولة المغربية مع فقدان الأذرع الاقتصادية العمومية والتي تمكنها من بناء شبكات للنفوذ والزبونية الطبقية، ستجعلها مجبرة على التحول الليبرالي / الديمقراطي، بعد أن تصبح دولة «متواضعة» غير قادرة على رعاية الطبقات الاقتصادية وعلى خلق الثروة بواسطة القرار السياسي، وهو ما يعني في النهاية إضعاف آليتها الهيمنية والتدخلية: «المخزن». اليوم، وبعد عقدين على بروز هذه الفرضية، هناك من يعتبر أن التحولات السياسية التي عرفتها بلادنا منذ إقرار دستور 1992، دليلٌ على أثر مباشر لتحولات الدولة والاقتصاد والقطاع العام، فيما يذهب الواقع، كما تؤكد بعض التحاليل الأخرى، في اتجاه معاكس. الدولة دبرت لحظة الانفتاح الليبرالي وتشجيع الاستثمارات وتفويت القطاع العام المكلف، بشكل أعادت به بناء شرعيات جديدة وبطريقة تسمح بإعادة انتشار وظيفي للدولة كفاعل رئيسي في السياسة وفي الاقتصاد، فاعل تدخلي بوظائف استراتيجية. إنها في الواقع، الوظائف نفسها التي قنّنها دستور 2011، والذي انطلق من تصور بناء دولة حديثة، دون أن يستطيع طبعا إسقاط المخزن نهائيا. لكن بتعبير الساسي، فإن القول بأن كل محاولة لتجريد النظام من مضمونه المخزني سيكون مآلها الفشل، هو حكم مسبق على المستقبل وموقف لا يخلو من دوغمائية. [email protected]