سعيد الحاجي* أستاذ جامعي متخصص في التاريخ المعاصر ما دلالة عدم اعتماد يوم 2 مارس، التاريخ الرسمي لتوقيع الاتفاق الذي أنهى العمل بمعاهدة الحماية سنة 1956، كعيد للاستقلال مقابل اعتماد تاريخ عودة محمد الخامس من المنفى؟ من المعروف أن اتفاقية الاستقلال تم توقيعها يوم 02 مارس 1956، وجاءت تتويجا للمباحثات التي انطلقت بين الوفد المغربي والحكومة الفرنسية منذ غشت 1955 في “إيكس ليبان” الفرنسية، وخلال السنوات الأولى للاستقلال على عهد الملك الراحل محمد الخامس، كان تاريخ 02 مارس هو تاريخ الاحتفال بعيد الاستقلال، بينما كان عيد العرش هو يوم 18 نونبر. ومع تولي الملك الراحل الحسن الثاني الحكم يوم 03 مارس 1961، تم تغيير تاريخ الاحتفال بذكرى عيد الاستقلال إلى يوم 18 نونبر. وبخصوص خلفيات تغيير تاريخ الاحتفال بعيد الاستقلال، فقد تعددت التفسيرات المقدمة بهذا الصدد، فهناك من ذهب إلى أن تزامن يوم 2 مارس كتاريخ لتوقيع اتفاقية الاستقلال مع يوم 03 مارس الذي تولى فيه الحسن الثاني الحكم، دفع هذا الأخير إلى تغيير التاريخ حتى يتم تخليد كل ذكرى بالشكل الذي يليق بها، طالما أن الاحتفالات كانت تستمر لأيام، وتفاديا لأي تداخل في تخليد الحدثين. لكن اختيار يوم 18 نونبر كانت له رمزية أيضا، إذ أنه اليوم الذي ألقى فيه الملك محمد الخامس خطابه الشهير، والذي أعلن فيه انتهاء عهد الحماية بعد عودته من منفاه يوم 16 من الشهر نفسه. كما أن ربط الاستقلال بخطاب الملك محمد الخامس فيه نوع من تكريس صورة بطل التحرير الذي ناضل في سبيل استقلال بلاده، وتأكيد على أن استقلال الدولة الحقيقي مرتبط بعودة ملكها وتثبيت نظام حكمه واستمراريته أكثر من أي شيء آخر. هل كان للصراع المبكر بين القصر والحركة الوطنية والتنافس حول مصادر الشرعية والرمزية، محددا في كيفية التأريخ للسنوات الأولى من استقلال المغرب؟ تعود جذور هذا النقاش إلى السنوات الأولى لظهور الحركة الوطنية المغربية بقيادة النخب الحضرية بعد توقف المقاومة المسلحة في البوادي، وقد برز زعماء هذه الحركة كقادة للنضال ضد الاستعمار، بالنظر إلى الحصار الذي كان مفروضا على السلطان محمد الخامس في تلك المرحلة من طرف الإقامة العامة الفرنسية، والتي كان من مصلحتها أن يبقى السلطان بعيدا عن واجهة النضال من أجل الاستقلال، لضرب مكانته ورمزيته في المجتمع المغربي. لكن السلطان محمد الخامس انتبه إلى هذه المسألة وبادر إلى إعلان دعمه الصريح للحركة الوطنية المغربية، لتجسيد دوره كقائد للدولة ومركزيته في الدفاع عن استقلالها. ولم يكن ممكنا أن تستمد شخصيات وطنية شعبيتها من النضال ضد الاستعمار أكثر من السلطان، باعتباره رمزا من رموز البلاد. لذلك، فإنه بقدر ما كان هناك تشبث للحركة الوطنية بالسلطان ودعم لهذا الأخير لها، فإن هاجس الرمزية والمشروعية كان حاضرا لدى كل الأطراف، وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا الهاجس في بعض الكتابات التي أرّخت لاستقلال البلاد. ماذا عن الانقسامات الداخلية التي عرفتها الحركة الوطنية؟ وما مدى تأثيرها على أحداث ما بعد الاستقلال؟ بدأت الانقسامات الداخلية للحركة الوطنية مبكرا مع الخلاف الذي نشأ بين كل من علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني منذ سنة 1936، بعد قرار هيكلة كتلة العمل الوطني، إذ سيحتفظ علال الفاسي بهذا الاسم، بينما سيقرر محمد بلحسن الوزاني تأسيس الحركة القومية، ومرد الخلاف إلى الطريق التي تمت بها هيكلة الكتلة، وقد تطرق محمد الوزاني في كتابه “مذكرات حياة وجهاد”، وعلال الفاسي في كتابه “الحركات الاستقلالية” لتفاصيل هذا الخلاف. وقد كان لهذا الانقسام تأثير كبير على مواقف الطرفين من مختلف التطورات التي عرفها المغرب خلال مرحلة الحماية، وقد زادت محادثات “إيكس ليبان” من تعميق الخلاف بين مكونات الحركة الوطنية، ما بين مؤيد للمشاركة فيها ورافض لمخرجاتها، حيث سينتج عن هذا الخلاف واقع سياسي غداة الاستقلال تميز بوجود ثلاثة اتجاهات، اتجاه ممثل في حزب الاستقلال المتحالف مع حزب الإصلاح الوطني في شمال المغرب، واتجاه يسعى إلى تكسير هيمنة حزب الاستقلال ممثلا في حزب الشورى والاستقلال المتحالف مع الحزب الحر في الشمال، والذي تربطه صلات وثيقة بعبدالكريم الخطابي، واتجاه ثالث ممثل في المتعاونين مع الاستعمار الذين كانوا يرغبون في إيجاد مكان لهم في مغرب الاستقلال، مدعومين ببعض الأطراف المقربة من القصر (كتاب: “الهيئة الريفية”، الصادر مؤخرا عن مركز بنسعيد آيت يدر للأبحاث والدراسات). عرف المغرب في السنوات الأخيرة محاولات لتسليط الضوء على المراحل الأولى للاستقلال عبر أدوات مثل تقرير الخمسينية وإصدارات جديدة، هل سمح ذلك باستجلاء بعض حقائق تلك المرحلة؟ بدأ النقاش حول أحداث المراحل الأولى للاستقلال في المغرب، مع تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، حيث توصلت الهيئة بمجموعة من الملفات التي تعرض أصحابها لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال العقد الأول بعد الاستقلال. وكان لزاما على الهيئة تسليط الضوء على أحداث تلك المرحلة من أجل معالجة سليمة للملفات المعروضة عليها، والتي ارتبطت خصوصا بالصراع الدائر بين المكونات الحزبية الرئيسة حينذاك (حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال)، إضافة إلى الخلاف الذي نشب بين مكونات جيش التحرير.. وقد كان من أهم توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة فتح النقاش حول موضوع الأرشيف والذاكرة، وهو ما ترجمه المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان عبر تنظيم ندوات وطنية حول مواضيع: التعليم والتاريخ الراهن، وندوة حفظ وتحديث الأرشيف الوطني، وصولا إلى ندوة الذاكرة، التاريخ والأرشيف، المنعقدة بالرباط في يوليوز 2009. كما عمل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بتنسيق مع كلية الآداب بالرباط، على إحداث ماستر “التاريخ الراهن”. وكل هذه الخطوات جاءت لتسليط الضوء على الأحداث التي عرفها المغرب منذ السنوات الأولى للاستقلال، وكتابة تاريخها بشكل علمي منهجي. وقد ساهمت هذه الخطوات بشكل كبير في إنتاج مجموعة من الدراسات التاريخية المرتبطة بالمرحلة المذكورة. كما أن وثائق هيئة الإنصاف والمصالحة، تضمنت استعراضا لسياقات بعض الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، حيث سلطت فيها الضوء على مجموعة من الأحداث التي عرفها المغرب خلال السنوات الأولى للاستقلال، معتمدة في ذلك على بعض الأرشيفات الرسمية والشخصية وشهادات بعض الأطراف التي وردت في جلسات الاستماع المنظمة من طرف الهيئة.