في بلدنا، الديمقراطية ليست مشروعا ولم تكن كذلك أبدا. إنها مجرد ذريعة، لم تنضج داخل رحم المجتمع حتى تكون ولادتها طبيعية، لقد تولدت من خاصِرة الدولة وليس من مخاض المجتمع دون حبل سُريٍ . إنها قرار صادر عن رحم آخر، أنجبها ببرودة بهدف خدمة مصالحه الخاصة فقط. إن المشروع الديمقراطي حاجة ومطلب، ينبع من أعماق المجتمع، ويولد من الصراع الطبقي وفي داخله عندما يكون شرعيا. أما الديمقراطية عندنا، ليست كذلك، إنها مجرد لقيطة؛ إنها ثمرة مريرة ولدت من التزوير. إن ديمقراطيتنا ومؤسساتها هي مونتاج للظروف، إخراج لرداءتنا الحالية، كياسة يتم خلالها تحريك كراكيز على منصة السياسة للإيهام بأن الحوار يستبق الصدام. والدليل على ذلك، أن قادتها وأغلب أعضائها ليسوا منتخبين “ديمقراطيا”، ولا يخدمون في أغلب الأحيان إلا مصالحهم الخاصة. إن قادتها بالضبط نظرا إلى طرق تتويجهم لا يجرؤون حتى على النظر إلى أعيننا. في بلدنا، البرلماني في أحسن الأحوال ليس إلا موظفا للدولة لا أكثر ولا أقل، يؤكد حضوره عندما يُطلب منه ذلك، بهدف تبيان أن كل شيء على ما يرام داخل المؤسسات الديمقراطية التي هي ليست في الحقيقة إلا قصورا من ورق. وحتى في أعلى مستويات الدولة، داخل السلطة التنفيذية، ليست هناك ديمقراطية، ولا تقاسم للسلطات، ولا توزيع حقيقي للعمل، رغم أن هذا الأمر لا غنى عنه لعقلنة عملية اتخاذ القرار في أي دولة عصرية ومعقدة. إن السلطة عندنا مركَّزة جدا، لا تتقاسمها إلا قلة قليلة من الأفراد الذين بعضهم ليسوا إلا وسطاء ووكلاء، مجرد أتباع ينفذون الأوامر ويستفيدون في الوقت نفسه مما في الصناديق. وفي كل مكونات الدولة “المُمَأسسة” ليس هناك أي نقاش، أي اعتراض أو مراجعة، ليس هناك سوى موظفين يفعلون ما يُؤمرون به دون زيادة أو نقصان. في بلدنا، الإرادة الشعبية هي كلمة عبثية، وفضاءات التعبير عنها كمحافل التنكر. لا أحد عندنا يشارك في النقاش، القرار يأتي من فوق، إنه يسقط مثل ساطور غير قابل للجدل والنقاش. والأسوأ، هو أننا في دولة أصبح فيها الإهمال هو القاعدة، وحتى القرار الممركز، يُنتظر اتخاذه، حتى حينما يكون الأمر مستعجلا، بل وحتى عندما يكون هناك خطر لا أحد يجرؤ على القول بأن الأمر يستدعي الإقدام والمبادرة، الجميع ينتظر في جبن وفي خنوع. إن دولتنا عبارة عن مسرح عرائس حيث التظاهر والمحاكاة، هما الأسلوبان الوحيدان للحوار والتمثيل. وأما المجتمع فغارق في مشاكله، في بؤسه وقيوده وضغوطاته. لقد تم تسليمه لصراعه من أجل الحياة، ومن أجل المدرسة والصحة والبقاء، وأما الديمقراطية بالنسبة إليه فهي مجرد هراء، وهذا أمر يعرفه منذ زمن طويل، واليوم، هو مقتنع بهذا بصفة نهائية. وأما شبابه المُهان والمتخلى عنه، فيحزم حقائبه، وينتظر التأشيرة الموالية، والطائرة الآتية، والسفينة المقبلة. وفي أَسوأ الأحوال يرمي بنفسه في عرض البحر لركوب أمواج المخاطر، لأن في بلده، في أرضه، الأمواج أكثر فتكا من أمواج المنفى.