ظلت ثلاثة أمور ثابتة والباقي تغير، ومنه ما حدثت فيه تغييرات كبيرة وعميقة. أما ما بقي ثابتا فثلاثة وهي: أولا: ثبات حكم الاستبداد والفساد والشروط الذي أدت إلى الانتفاضة ضدهما سنة 2011، وتأكد أن النظام غير مستعد للتنازل ولو على جزئية من بنيته فالأحرى أن يُقدِم على تغييرات جوهرية. ثانيا: مادامت تلك الشروط مستمرة، بل استفحلت أكثر من أي وقت مضى، فإن الثابت الثاني هو حتمية تكرار الانتفاضات والحراكات الشعبية إلى حين إسقاط الاستبداد والفساد. ثالثا: ثبات الراسخين في مواجهة جوهر الاستبداد والفساد على خط المدافعة المبدئية، وما تزيدهم تقلبات الأوضاع، مهما قست، إلا اقتناعا بصوابية الاختيار وارتفاع منسوب الأمل في قرب التغيير الحقيقي المأمول. أما ما تغير بعد 20 فبراير 2011 فهو كثير، بل إن مغرب ما بعد 2011 لم يعد كما كان قبلها. فقد تغيرت الكثير من المعادلات ومن موازين القوى، وأُسقطت العديد من المسلمات، حيث أظهر الحراك أن الكثير منها كان عبارة عن أوهام استغلها المخزن ليؤبد حكمه وتسلطه عقودا قبل 2011. ولا بد في البداية من الإشارة إلى أن ما حدث في 2011 لم يكن معزولا ولا حصل طفرة، فقد جاء ضمن سيرورة من تراكمات نضالية وحراكات متتالية، ولا أدل على ذلك من حصيلة التضحيات والشهداء والمعتقلين من كل التوجهات طوال عقود ما قبل 2011، خاصة خلال الحقبة السوداء في مواجهة استبداد نظام الحسن الثاني. لكن ما حدث بعد 2011 يعتبر تطورا مهما جدا، فمما تغير بعد هذا التاريخ وخلال الثماني سنوات الماضية كثير نجمله في النقاط التالية: – سقوط حاجز الخوف لدى الشعوب، وهذا تغيير مهم جدا. وتلاحظ، أيها القارئ الكريم، أن كثيرين يلحون على تكرار وتأكيد هذا المتغير نظرا لأهميته القصوى في المعادلة وفي ترجيح ميزان القوى بين الأنظمة والشعوب. وتجاوز مركب الخوف لم يكن اعتباطيا ولا طفرة، إنما جاء نتيجة تراكم خيبات أمل وفقدان ثقة في السياسة وفي السياسيين خلال العقود السابقة، ثم جاءت 2011 لتسقط هذا الحاجز الذي كان يستغله النظام لتثبيت حكمه. وسقوط حاجز الخوف تترتب عليه نتائج كثيرة، أهمها أن الشعب أصبح يخرج ويفرض إرادته، ويقدم التضحيات، ولم يعد النضال والتضحية حكرا على القوى السياسية ورموزها، والدليل على ذلك أن النضال ارتفع بشكل كبير جدا سواء من حيث عدده، أو من حيث انتشاره الجغرافي، أو من حيث امتداده وسط مختلف فئات الشعب؛ الأساتذة المتدربون والمتعاقدون، الطلبة الأطباء، التلاميذ، حراك ولاد الشيخ، والريف، وجرادة، وإيمضير، حراك فواتير الماء والكهرباء في الشمال، المقاطعة الاقتصادية، وغيرها. فأشكال الاحتجاج تقوّت، وأصبح الشعب مستعدا أيضا لأداء الثمن، وهذه مفارقة كبيرة في تاريخ المغرب، تكفي في إبرازها حصيلة المعتقلين والشهداء من عموم الشعب بغض النظر عن انتماءاتهم أو حتى بدون انتماء. وهذا الدور الشعبي المتنامي لا تنحصر أهميته فقط في مرحلة السعي لإسقاط الاستبداد والفساد، إنما أهميته أقوى في المرحلة الانتقالية ومرحلة الاستقرار والبناء، إذ إن من ضحى من أجل تحقيق مكتسب سيكون أحرص على حمايته وتحصينه. – تلاشي آخر بصيص من الثقة في الوعود الرسمية، فمع 2011 قامت السلطات بمحاولة التفافية، فقدمت وعودا ودستورا عرف تغييرات شكلية كشفت فيما بعد أن النظام غير جاد وليست له أي إرادة في تنزيلها. وهذا كان واضحا منذ البداية؛ فمن احتكر سلطة وضع الدستور فرض منهجيته وإرادته ومجال سلطاته، ولكن، كما يقال، الزمن كفيل بالحكم على كثير من الأمور التي يقع فيها بعض الالتباس أو تُعلق عليها بعض الرهانات. فلم يلبث النظام أن استعاد بشراسة حتى بعض الأمور التي كان أعطاها تحت الضغط، وثبت أن الدستور لا يختلف عن الدساتير السابقة؛ فالسلط لا تزال مركزة في يد الملك ومحيطه، والفساد ونهب الثروة مستمران. هذا كله ساهم في قتل آخر بصيص ثقة في السلطات الرسمية وفي النظام. – حرق المخزن آخر أوراقه التي يمكن أن يناور بها، وأتلف كل الواقيات من الصدمات. فماذا بقي في جراب النظام ليناور به في قابل الأيام التي تتصاعد فيها الاحتجاجات؟ – ثبوت صدقية المقاربة القائلة بأن الفساد والاستبداد بنيويان لدى المخزن، وأن هذه البنية هي المسؤولة عن كل الأزمات، ولا يمكن تصور مباشرة أي إصلاح دون تغيير بنية النظام نحو بنية أخرى مختلفة تبنى على عكس ما هو موجود الآن، تبنى على الإرادة الشعبية، والتداول على السلطة، وأن يكون الحاكم منتخبا، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وعدم الجمع بين السلطة والثروة وغيرها من مرتكزات الحكم الرشيد. – وقوع حالة فرز كبيرة في المغرب، إذ كانت الاصطفافات سابقا ترتكز على أسس إديولوجية ومذهبية، وكان النظام يستغل هذا الأمر لإدامة الصراع وسط مكونات الشعب ولعب دور الحكم بينها. لكن بعد 2011 انكشف جزء كبير من هذا الفخ، وأدرك كثيرون هذا الأمر، وانتبه جزء مهم من القوى إلى أن الاصطفاف ينبغي أن يكون على أساس سياسي، خصوصا ونحن نرى أن ضمن كل التيارات أطراف يساندون الاستبداد وآخرون يناهضونه. ولهذا فإن الاصطفاف القمين بالتأسيس لبناء دولة المستقبل ينبغي أن يكون على أساس من مع ومن ضد الاستبداد. هذا لا يعني أننا أصبحنا أمام حالة فرز نهائية، وإنما قلت، وأؤكد، أننا قطعنا شوطا مهما ينبغي إتمام الوعي به من لدن الجميع، لأنه مدخل رئيس لتغيير حقيقي آمن. – عودة الأسئلة الكبرى إلى الساحة وارتقاء الشعب من المطالب الخبزية، الطبيعية والمشروعة، إلى المطلب التأسيسي الذي يعتبر هو المدخل الأساسي لتحقيق باقي المطالب، من حرية وكرامة وعدالة، فهذه جميعها مرتهنة للسؤال المركزي والتأسيسي وهو وضع دستور جديد بمنهجية وآلية مختلفة عن دساتير المنح، يؤسس لنظام جديد مبني على المعايير الديمقراطية؛ من مبدأ السيادة الشعبية وعدم احتكار السلطة وربط المسؤولية بالمحاسبة، ويؤسس للحريات والعدالة بشكل حقيقي لا مكذوب ومناور كما جاء في دستور 2011. – انكشاف أن المخزن ليس له صديق، وواهم من يعتبر أنه مقرب منه، والدليل هو أن النظام يأكل الجميع، بل يأكل حتى أطرافه. وهو أمر تكرر بشكل واضح في المغرب الحديث على الأقل مرتين؛ مرة مع ما سمي بحكومة التناوب، حيث أكل جزءا من اليسار ممن قدموا له خدمة كبيرة للعبور من عنق الزجاجة أثناء انتقال الملك من الحسن الثاني إلى محمد السادس، والثانية إبان حراك 2011 مع جزء من الإسلاميين الذي اعتقد بأنه قدم خدمة للمخزن، لكن النظام ليس له صديق ولا يعترف بذلك، فهو يطحن الجميع، وهذا ينبغي أن يكون درسا يستفاد منه في المستقبل. – سقوط وهم القوة المطلقة للنظام، فالنظام قوته ليست ذاتية، بل يستمد قوته من تشتت المجتمع. وهذا درس لم يكن حكرا على المغرب بل كان درسا إقليميا ودوليا. فأوهام قوة الأنظمة دحضها سقوط الكثير منها في ظرف وجيز، وهذه ليس فيها أي استثناء ويمكن أن تتكرر بين عشية وضحاها في كل بلد، شريطة أن تعي القوى المجتمعية الدرس وتكثف جهودها وتُسقط لعبة “فرق تسد”. – رهان النظام على السياق الدولي والإقليمي للعودة إلى وجهه السلطوي القمعي الأمني الشرس. نعم هو يستغل هذا السياق، لكن هذا وهم آخر يسقط فيه النظام، لأن الرهان على بعض القوى الدولية التي تصرفت بشكل غير أخلاقي في ما بعد 2011 بتزكيتها لانقلابات على الديمقراطية وعلى الشرعية، خصوصا ما حدث في مصر، وما حدث ولا يزال في سوريا، وما يدبر أيضا لإعدام تجربة تونس. فكما أنه ليس للأنظمة صديق ضمن جغرافيتها المحلية، فإن القوى الدولية ليس لها أيضا صديق، فهي تابعة لمصالحها. وهناك دروس في التاريخ القريب جدا؛ من شاه إيران وكيف تخلت عنه أمريكا، إلى القذافي الذي كان يغدق على الكثير من الأنظمة الغربية والتي كانت في طليعة من واجهه لما انعدمت فيه المصلحة، وغيرهما من الأنظمة. تأسيسا على كل ما سبق، نخلص إلى أن حتمية التغيير أمر مؤكد ومستقر، وهي مسألة وقت، ولا ينبغي أن نستعجل، فالتغييرات التاريخية الهامة لا تحدث بين عشية وضحاها. وينبغي أن نثق في قوة وأهمية ما حدث خلال 2011، والذي يمثل الأساس لبناء مسار مستقبلي، وأن نكون على وعي تام بكذب من يروج أننا نعيش خريفا بعد الربيع، حيث يتم تخويف الشعوب من تبعات الخروج في انتفاضات وثورات للمطالبة بحقوقها وبفرض إرادتها الشعبية وإسقاط الفساد والاستبداد. هؤلاء يعرفون الحقيقة ولكنهم يدلسون على الشعوب. فليس هناك تغيير بضربة لازب؛ وما حدث خطوة أولية فعلت فعلها في الشعوب والأنظمة والواقع وينبغي أن تستكمل القوى الحية رفقة الشعوب المشوار الذي لن يخرج عما حدث من تغييرات هامة لدى غيرنا من الأمم، مع الوعي التام بحجم الثمن اللازم الذي ينبغي أن يستعد الكل لأدائه. فما ينبغي أن يكون راسخا أن كل المؤشرات المتتالية تؤكد على وجه اليقين القطعي أننا أصبحنا اليوم أقرب إلى تحقيق الأمل الشعبي في التغيير أكثر من أي وقت مضى، ولا يمكن كبح أو إعادة التاريخ إلى الوراء. وواهم وعبثي من يحاول ذلك، ولا يفيد في ذلك كبح عجلة التغيير، ولا يمنعه محاولة سرقة أو إجهاض الأمل. فالأمل رسم طريقه ومن يحاول أن يعاكس الإرادة الشعبية فإنه يضع نفسه في طاحونة التاريخ والتغيير، وسيكون هو أول من تلفظه هذه الماكينة. فهلا من معتبر من درس التاريخ؟