إذا ما نجا السجين من التعذيب الجسدي بمختلف ألوانه، فقد لا ينجو في غالب الأحيان من ممارسات نفسية تبتغي تحطيم معنوياته. فالتعذيب الجسدي يترك أثرا في الجسد بينما التعذيب النفسي يترك جراحا في النفس قد لا تندمل أبدا، لتبقى نفسية المعتقل أو السجين – حتى بعد توديعه لأسوار المعتقلات – مثخنة بجراح عميقة تطفو على السطح بين فترة وأخرى، وهو ما ورد في عدد من مذكرات المعتقلين في إطار ما سمي بأدب السجون، على غرار المذكرات المرتبطة بمعتقل تازمامارت. وبحسب ما ذكره الدكتور “هرنان رييس” من قسم المساعدة في اللجنة الدولية للصليب الأحمر و المتخصص في الجوانب الطبية للاحتجاز، والذي زار العديد من مراكز الاحتجاز في جميع أنحاء العالم، فإن التعذيب النفسي يحيل إلى “تلك الممارسات التي تؤدي إلى حصول الألم النفسي الشديد، بشكل يؤدي إلى إحداث تأثيرات قوية على القدرات الإدراكية، وعلى عناصر الشخصية خلال فترة الاستجواب التي لا تعتمد في غالب الأحيان أساليب مؤذية للجسد”. التعذيب النفسي أو “التعذيب الأبيض”، هو أحد أكثر أساليب التعذيب تأثيرا وضغطا على المعتقلين السياسيين والمحتجين على السلطة الحاكمة لأنه يعرض نفسية المعتقل لضربات تبقى آثارها لفترة طويلة وربما للأبد. والفرق الرئيس بين تقنيات التعذيب النفسي ونظيره الجسدي، هو أن الحالة العاطفية للمعتقل يمكن أن تنحرف بحسب تقرير أمريكي معنون ب “No touch Torture”، والذي اعتمد على مذكرات تعذيب لمعتقلين، وعلى تقرير للجنة المخابرات بمجلس الشيوخ رفعت عنه السرية سنة 2014. ويجري الاعتماد على هذا النوع من التعذيب بغرض صرف نظر مجموعات ودعاة حقوق الإنسان ومحو ذاكرة المستجوب معه، عن طريق عدة تقنيات منها الحرمان من النوم، كما ورد في التقرير. الحديث عن التعذيب النفسي يحيل على نماذج كثيرة وأساليب مختلفة يعتمدها الجلاد لتحطيم ضحيته معنويا، من قبيل منع السجناء من الهواء الطلق والاستحمام والزيارات الأسبوعية للعائلات، والإذلال والإهانة بعبارات تمس شخصهم وعائلتهم ومقربيهم، والسعي إلى النيل من سمعتهم أمام العامة وزعزعة ثقتهم بأنفسهم. هذا النوع من التعذيب غير الملموس وغير المادي تطرقت له عدد من المنظمات الحقوقية الدولية التي صنفته ضمن خانة الممارسة المهينة والماسة بحقوق الإنسان، على غرار منظمة العفو الدولية. التعذيب النفسي المباشر يحاول تحطيم معنويات السجين وكسر مقاومته والتحكم الكامل به وصولا إلى فرض قناعات جديدة عليه بالقسر، وهذا ما ذكره مصطفى حجازي في مؤلفه المعنون “الإنسان المهدور”. ويشكل العزل في زنزانة مظلمة إحدى وسائل التعذيب النفسي لما له من آثار خطيرة على توازن السجين، ويصاحبها عادة العزل عن العالم الخارجي ومنع أخباره كليا وإبقائه في حالة وحدة تفجر لديه قلق المجهول، وهو ما يمكن أن يعصف بنفسيته. “وفي حالات أخرى من التعذيب النفسي تجرى محاولة تحطيم معنويات السجين من خلال جعله يسمع الأذى الذي يلحق برفاقه من صراخ وعويل نتيجة الآلام المبرحة”، يقول حجازي في مؤلفه. ويضيف المفكر وعالم النفس اللبناني في كتابه، أن من وسائل التعذيب النفسي الشائعة، التخويف ووضع السجين في توقع الأسوأ على شكل الإعدام أو القتل. “حيث قد يؤخذ على حين غرة من زنزانته ليلا أو فجرا ويتم إعلامه بأنها ساعة تنفيذ حكم الإعدام المزعوم”. ويضيف المؤلف معلقا على الموضوع: “أننا بصدد إيصال السجين إلى أقصى درجات احتماله، من خلال عمليات التخويف هذه، وهو ما يؤدي ليس فقط، إلى إحداث الأذى النفسي لديه، بل كذلك يحدث أذى دماغيا أو جسديا خطيرا بعض الأحيان، نتيجة لوصول الضغوط والتوتر والقلق إلى أقصى مداها بشكل لا يعود الجسم والجهاز العصبي يتحملها، ناهيك عن التحمل النفسي”. الهدف الأخير من كل أنواع التعذيب النفسي التي تمارس على السجين، هو إيصاله إلى مرحلة تبخيس قيمة حياته، وما كان يظنه رواية مهمة إذا به نوع من الغباء والتفاهة، وهو ما يطلق جولة أخرى من تحطيم كيان الضحية ونزع قيمتها بحسب حجازي، مردفا في مؤلفه “قصة حياته التي رواها بعناء وعذابات تسقط في المياه الآسنة على أرض الغرفة أمام المحقق وتداس بالأقدام في حالة من الازدراء”، فقصة حياته “حثالة وتاريخه حثالة، وهو بالتالي حثالة، تلك هي قمة الازدراء والتجريد من المعنى والقيمة والكيان وهكذا يتم النيل من الضحية”. الهدف من التعذيب النفسي، أيضا، هو التحكم في عقلية الضحية والتلاعب بإدراكها، ويتم هذا إما بالضغط النفسي المكثف أو دفعه إلى الانهيار من خلال التعذيب والإجهاد والتخويف والحرمان من الحاجات الأساسية، وبالتالي الوصول إلى مستوى الأداة الطيعة في يد جلادي التعذيب وخبرائه. ويضيف حجازي أن الوصول إلى هذه المرحلة يجعل من الفرد مجرد “روبوت” أو إنسان مسير، فاقدا كليا للإرادة والقدرة على التوجه، ما يفسح المجال أمام إعادة تعلم تؤدي إلى تغيير المطلوب ضمن حصار في شبكة محكمة من التحكم متعددة الجوانب لا فكاك للضحية من حلقاتها ودوائرها المترابطة. “التعذيب الجسدي قد يظل برانيا في بعض الحالات، بينما النفسي يرمي التحكم بنواة الإنسان ومرجعياته الأكثر رسوخا وتحديدا لهوية الإنسان ومعناه، حيث لا يتبقى من مقومات الكيان الإنساني أي مرجعية تتيح للإنسان أن يكون إنسانا”. الحرمان من النوم الحرمان من النوم من بين الأساليب التي استخدمها المحققون في وكالة الاستخبارات الأمريكية مع السجناء في معتقل غوانتنامو، بحسب ما ورد في تقرير لمجلس الشيوخ الأمريكي عام 2014 ، إذ يُجبر المعتقلون على البقاء مستيقظين لمدد تصل إلى 180 ساعة، وهو ما يعرضهم لاضطرابات نفسية وعقلية. كما كان المعتقلون يُتركون في ظلام تام في غرف معزولة، بحسب ما ورد في تقرير الشيوخ، بالإضافة إلى التهديد بالاعتداءات الجنسية والإذلال، إذ ذكر التقرير أن أحد مسؤولي وكالة المخابرات الأمريكية وجه تهديدات لمعتقلين بإيذاء ذويهم، بما في ذلك تهديد أحد المعتقلين بالاعتداء جنسيا على والدته، وتهديد آخر بذبح والدته، وذلك وفقا لما أقره تقرير مجلس الشيوخ الأمريكي. من أساليب التعذيب التي اتبعت في هذا الإطار، والتي ترمي إلى إيذاء نفسية المعتقل، هي تصويره عاريا وإجبار السجناء على لبس الحفاظات ومنعهم من الذهاب إلى المرحاض، بحسب المصدر ذاته. الظلام يقول أحمد المرزوقي، في شهادته المعنونة ب”الزنزانة رقم 10″، التي يسرد فيها تجربته في تزمامارت، غداة وصول المعتقلين العسكريين، إلى أحد أشهر المعتقلات السرية في المغرب، وهو يصف الزنزانة التي شكلت مستقره على مدار عقدين من الزمن.. “كل زنزانة كانت عبارة عن علبة ضيقة من الإسمنت المسلح، طولها ثلاثة أمتار وعرضها مترين ونصف، أما عولها فيقرب من أربعة أمتار تسبح ليل نهار في ظلام مطبق، اللهم إلا من خيط نور رمادي باهت كان يتسلل في عز النهار من ثقب في السقف فيعكس على أرضية الزنزانة على شكل دائرة صغيرة شاحبة لا تكاد ترى فيها أصابع اليدين إلا بصعوبة شديدة”. الإنهاك الجسدي إنهاك المعتقل جسديا وعصبيا عبر التحكم في حاجات الجسد الأولية، وتتعدد عمليات الإجهاد التي تستخدم كمرحلة أولى من مراحل غسيل الدماغ، منها وضع الجسد في وضعيات مرهقة لمدة طويلة، مثلا السجن في زنزانة ضيقة لا يستطيع الإنسان الجلوس فيها أو الوقوف أو الحركة بشكل مريح. التلاعب بحرارة الزنزانة ما بين الحر الشديد والبرد الشديد، عن طريق مواد البناء و”الأسفلت” المستخدم في بناء الزنازين، وكذلك التعريض للحر أو البرد لفترات طويلة، وهذا ما ذكره التقرير مجلس الشيوخ لسنة 2014. التعذيب الأبيض التعذيب الأبيض هو نوع من التعذيب النفسي الذي ارتبط بسجن “إيفين” في إيران، أحد أشهر السجون الإيرانية بعد الثورة عام 1979، اشتهر باحتجازه للمعتقلين السياسيين وسجناء الرأي وعدد كبير من المعتقلين حتى لقب بجامعة “إيفين”، نظرا إلى قيمة ضيوفه المعتقلين. اشتهر سجن “إيفين” بعمليات التعذيب الأبيض لفترات طويلة، من خلال الحبس الانفرادي خارج نطاق سيطرة سلطات السجن. والتعذيب الأبيض هو نوع من أنواع التعذيب النفسي، يتضمن وحشية في الحرمان الحسي، ويدفع هذا النوع من التعذيب المعتقل، إلى فقدان هويته الشخصية وجزء من الذاكرة وانخفاض إنتاجه البشري من خلال فترات طويلة من العزلة عن العالم الخارجي. كما أن من مميزات هذا النوع من التعذيب أنه لا يترك أثرا على الجسم، كما يجري مسح بيانات المعتقل من سجلات الدولة. وتشتهر إيران بشكل كبير بهذا النوع من التعذيب، وهو ما يسمى بالإيرانية “شكنجه سفيد”، وهذا النوع من التعذيب يمارس على الخصوص على السجناء السياسيين والصحافيين ويتم بإذن من الحكومة الإيرانية. وتطرقت لهذا النوع من التعذيب عدد من المنظمات الحقوقية الدولية، من ضمنها منظمة العفو الدولية التي أشارت عام 2004 إلى التعذيب الذي مورس على أحد المعتقلين في السجن، والذي وضع في غرفة بدون نوافذ وكل شيء باللون الأبيض، من بينها وجبة الأرز التي تقدم له. وقد ذكر أحد الصحافيين المعتقلين الذين مروا من تجربة التعذيب الأبيض أن أسوأ ما في هذا النوع من التعذيب هو “أنك لا تستطيع أن تشفى منه حتى بعد إطلاق سراحك”. الموسيقى.. للتعذيب! من قال إن الموسيقى وسيلة للترويح والترفيه عن النفس فقط، فهو واهم وخاطئ، فالموسيقى هي، أيضا، وسيلة للتعذيب النفسي والمعنوي، ويجري استخدمها لمعاقبة المعتقلين في مختلف أنحاء العالم وأضحت في عدد من المعتقلات آلية ناجعة للعب بأعصاب المعتقلين من المعارضين السياسيين وأصحاب الرأي. مجلة “Midical Daily” الأمريكية، نشرت مقالا مفصلا حول استخدام الموسيقى للتعذيب، خاصة إبان الحرب الأمريكية على العراق، باعتبارها نوعا من أنواع الحرب النفسية المستخدمة لكسر إرادة السجناء باستخدام الموسيقى الصاخبة أو “الضوضاء البيضاء” “White Sound”. وجاء في مقال “ميديكال الديلي” أنه بعد ظهور معطيات تفيد بتعذيب المعتقلين من طرف الجيش الأمريكي في سجن “أبو غريب” في العراق، تبين أنه جرى استخدام التعذيب الصوتي ضد الجنود، وأشارت إلى أن هذا النوع من التعذيب بالرغم من أنه محضور بموجب اتفاقية الأممالمتحدة لمناهضة التعذيب، إلا أنه لازال مسموحا به بموجب القانون الأمريكي. ونطالع في المقال مقطعا مصورا مع أحد الجنود الأمريكيين الذي أدلى بشهادته حول الموضوع ويشرح فيه كيفية استخدام الموسيقى المزعجة، من أجل التأثير النفسي على أسرى الحرب في سجن “أبوغريب”. ورغم أن التعذيب عن بعد وبلا لمس للضحية “No touchTorture” يعتبر في نظر الكثيرين أكثر إنسانية، مقارنة بباقي أنواع التعذيب من قبيل الإيهام بالغرق أو التعذيب الجسدي، ولكنه فعال بالقدر نفسه عندما يتعلق الأمر بإخراج المعلومات والحصول على الاعترافات من السجناء العسكريين أو السياسيين. وهو ما يدفع عددا من نشطاء حقوق الإنسان إلى تصنيف هذا النوع من التعذيب انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان الأساسية. وفي هذا الصدد، ذكرت المجلة الأمريكية أن “CIA” تتوفر على أشرطة تحتوي عددا من المقاطع الموسيقية المخصصة لهذا الغرض، والصادم في الموضوع هو أن من بين هذه المقاطع الأغنية الشهيرة للديناصور البنفسجي “بارني” وأغنيته “أنا أحبك”، التي يتغنى بها الأطفال. وقال أحد المعتقلين في تعليقه عن الموضوع: “إذا قمت بتشغيل هذا النوع الموسيقي لمدة 24 ساعة، فإن وظائف الدماغ والجسم تبدأ في الانزلاق، وتبطئ عملية التفكير، وتنكسر إرادتك”. كما يجري، أيضا، استخدام مقاطع موسيقية مسيئة للسجين ثقافيا ودينيا، وهو ما يؤثر على نفسيته. البروفيسور سوزان كوزيك “Suzanne Cusick” من جامعة نيويورك، سبق وأن قام بدراسة حول التعذيب الموسيقي عام 2009، وأشار إلى أنواع موسيقية كانت تستخدم لتحطيم معنويات العدو، والتي توصف بالموسيقى “عديمة الجدوى”، وهي وسيلة يحاول من خلالها السجان إقناع المعتقل بأن محاولاته في مقاومة التحقيق معه غير مجدية. “التعذيب السليم” أو “الأبيض” ليس بالأمر الجديد في الواقع، بل تعود جذور هذا النوع من التعذيب إلى ثقافة “الأزتك” Aztec culture”،والتي تعتمد على نوع موسيقي يسمى بصافرة الموت، التي يجري استخدامها قبيل الحرب للتسبب في عدم ارتياح في صفوف جنود العدو والتأثير على مزاجهم ونفسيتهم. استخدام الصوت والضجيج للتعذيب نجد له أثرا، أيضا، في مذكرات معتقلي تازمامارت، وفي هذا الصدد، أشار الراحل محمد الرايس في “تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم”، إلى معاناته مع الصخب الذي يسببه الحراس خلال فتحهم وإغلاقهم لأبواب المعتقل الحديدية، متعمدين بذلك إصدار ضجيج يسبب رجة في الدماغ. يقول الرايس: “طلبت من أحد الحراس إن كان بإمكانه إغلاق الباب بدون رجة، أجابني بهدوء إنها أوامر المدير للتأكد من انغلاقها فعلا.. وكثيرا ما رجوناهم من بعد، لكن بعض الساديين منهم كانوا يتلذذون بكل ما يثير غضبنا ويغلقون الأبواب بضجيج أكبر.. وقد كنا نعي بأننا نخضع لحرب أعصاب”.