*شاعر، نائب رئيس اتحاد كتاب المغرب لم يسبق لي أن اجتمعت بالصحافي توفيق بوعشرين: لا في ندوة، ولا في مقر جريدة، ولا في غيرهما. مرة واحدة، جمعنا انتظار ركوب القطار، من محطة أكدال، دون أن ينشأ بيننا أي حديث. بدل الاجتماع المباشر ببوعشرين، كان لي معه لقاء آخر غير مباشر. أذكر أنني كتبت نصا تخييليا، تدور أحداثه حول صحافي «طارئ»، انقلب على مواقفه التقدمية الجريئة بسرعة البرق. وعلى الرغم من طابع النص التخييلي، الذي لم تتم فيه الإشارة إلى أي شخص بالاسم، امتنع بوعشرين عن نشره، على افتراض المساس بشخص زميل، حتى ولو كانت له معه سجالات غير ودية. الملاحقات القضائية، التي كان يتعرض لها زميله الصحافي، جعلت السيد توفيق يحجم عن نشر ما كتبت.. هذا ما أُخبِرتُ به من داخل هيأة تحرير «أخبار اليوم» آنئذ. لم أخف غضبي من موقف بوعشرين، جراء احتجازه للنص، ثم قراره بعدم نشره. واليوم، بعد تركي هذه الواقعة خلفي، التي أدركت من خلالها مروءة بوعشرين، يصيبني كثير من الحنق والغضب، جراء ما يتعرض له الرجل على أيدي زملاء مهنته. لقد استُعمِلت جميع الأساليب لإدانة بوعشرين، حتى قبل أن يقول القضاء كلمته. مرة أخرى، كان «ظلم ذوي القربى أشد مضاضة» على حد تعبير الشاعر، الذي لم يكن جاهليا، بالمناسبة، مثل بعض صحافيينا اليوم. لقاء بوعشرين المباشر لم يكن شرطا، على الإطلاق، للمداومة على قراءة افتتاحياته القوية. والواقع أن الصحافي كان يقدم مواد إعلامية نموذجية، عبر ما كان يخطه قلمه من افتتاحيات. ذلك أن الرجل تميز بقلم سلس، لكن حاد في نفس الوقت. في افتتاحياته، كان تحضر العبارة الرشيقة، في سياق من الثقافة التاريخية والسياسية والدينية الواسعة. يمكنني القول إن في قلم «المعتقل»، اجتمعت كل أسباب النباهة، الأمر الذي جعله «محط» أنظار المتربصين. في الخلاصة، يمكن القول بمرارة: غالبا ما يكون للنباهة ثمن غال، وبخاصة إذا كانت مدعومة بالموقف النقدي القوي. ارتباطا بالصحافة الوطنية، كانت افتتاحيات بوعشرين في طليعة ما حرصت على قراءته كل صباح. وإن ظللت أحس لديه ميولا إلى بنكيران (وحزبه، ثم تياره في ما بعد)، إلا أن قراءة افتتاحياته كانت ضرورية، بالنظر إلى ما ظلت تتضمنه من وجهات نظر «دسمة»، سواء حول ما كان يجري داخل الحزب الإسلامي، أم داخل الأغلبية الحكومية. لم أنظر إلى بوعشرين، باعتبار خلفيته الإسلامية، خارج إطار مواقفه المتفق عليها من الجميع: الدفاع عن رئاسة الحكومة، في وجه «رجال الظل» الظاهرين والغابرين.. الباقي مجرد تفاصيل صغيرة. ولطالما كنت أمتعض من بعض أصدقاء «اليسار»، حين كانوا يمعنون في القدح في سيرة بوعشرين، على خلفية ميولاته الإسلامية «البنكيرانية». كوني مثقفا، ومشتغلا بالثقافة، جنباني السقوط في حلبة «العمى الإيديولوجي».. وإن كنت على النقيض من تجربة الإسلام السياسي. الواقع أن بوعشرين استطاع إنشاء «صحيفة» محترمة، لها خطها التحريري الخاص، مثلما لها أسلوبها في معالجة الأحداث. وبعبارة مختلفة، ظلت «أخبار اليوم» بمثابة «رمانة الميزان»، في محيط إعلامي يتقاذفه التشابه في الصحف «الموالية». وإن لم أكن أساير هواها، في الأغلب الأعم، إلا أن ذلك لم ينل من احترامي لوجهات نظرها. لقد عرف مؤسس الصحيفة كيف يستديم احترام الكثيرين، الذين لم يكونوا يتفقون، بالضرورة، مع ميولاته السياسية ومواقفه. على نقيض الأحزاب السياسية المتهالكة، نهضت الصحافة الوطنية المستقلة بأدوارها النقدية المطلوبة. ولذلك، لم يكن مقبولا من الصحف، لدى البعض، أن تملأ الفراغ الناشئ. ويصح نعت «أخبار اليوم»، إضافة إلى صحف ومواقع أخرى قليلة، بأحزاب المعارضة الحقيقية. أنا أصف واقعا معينا، ولم أُعْنَ فيه بما سيحدث، بارتباط مع قضية «الاتجار بالبشر» اللاحقة. والملاحظ أن محنة بوعشرين، في سياق الدعوات القضائية المرفوعة على الصحف، تخبر بواقع الحريات الإعلامية في بلادنا. إن محنة بوعشرين المستمرة، بات يعاني وطأتها أكثر من صحافي، وبخاصة ذوي الأقلام النقدية القوية. وأعتقد أن استمرار هذا الوضع القاتم، سيجهز على كل الإعلام الشريف، من حيث هو حاجة نقدية وتنويرية حيوية للدولة والمجتمع معا. وإذ أفتقد افتتاحياته القوية، التي لم تعوض قوتها افتتاحيات أخرى، أنتظر أن يُنصف بوعشرين في الاستئناف. محاكمته التي شغلت البلد، إضافة إلى انقسام الرأي حول موضوعه، يعجلان بضرورة تصحيح مسار القضية، بالنسبة لما يُهيّأ له استئنافيا. أعترف بعدم تمكني من اللغة القانونية المطلوبة، إلا أنني أقدر أن مكان بوعشرين في «جريدته»، يشرف علينا بافتتاحياته كل صباح. ومثل بوعشرين، آمل أن تظل «أخبار اليوم» صحيفة حرة، وفية لخطها التحريري المتميز.