في الرد على مقال هشام العلوي المنشور بجريد «أخبار اليوم» عدد 2746 بتاريخ 1718 نونبر 2018.. الحركة الإسلامية بين الاتهام باليوتوبيا وتحدي المؤامرات @ عبدالمولى المروري قد أتفق مع الأستاذ هشام العلوي كون أن الأمة الإسلامية كانت ممتدة على مدى العالم المعروف دون حاجز أو حدود أو فضاء، وأن الحكم بها لم يكن ثيوقراطيا، ولكن أتحفظ على إلغاء صفة الحكومة على هذا التجمع البشري وحصره في مجرد اعتباره جماعة من المؤمنين. ومع كامل التقدير والاحترام للكاتب الكبير، فإن هذه الرؤية تفتقد إلى الدقة والبحث العميق حول نظام الحكم في الإسلام وتطوره عبر الزمن والأجيال. فما معنى أن تكون الدولة الإسلامية طيلة تلك القرون مجرد جماعة من المؤمنين، على مساحة ضخمة من جنوب أوروبا إلى أندونيسا، مرورا بقلب العالم الإسلامي شبه الجزيرة العربية، وعبر غرب الصين ودول بحر قزوين؟ ألم يكن لجماعة المؤمنين هاته أي نظام حكم أو قوانين تنظم المجتمع أو مؤسسات أو أجهزة متطورة تناسب تلك العصور؟ الأكيد بالعودة إلى التاريخ سنجد أن “الأمة الإسلامية” أبدعت منذ فجر الإسلام وعقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أشكال حكم وأنظمة وقوانين جد متقدمة على الأنظمة المعاصرة (الفرس والروم وشرق آسيا)، مع وجود انتكاسات وانزلاقات شوشت بشكل كبير على هذه النماذج الرائدة. على أي، ليس هذا موضوع التعقيب على مقال الكاتب هشام العلوي، علما أن مقدمته تلك هي مقدمة مؤطرة لما بعدها تحليلا وتأصيلا واستنتاجا وخلاصات..، بل إن موضوعنا هو “فشل اليوتوبيا الإسلامية”، لنتساءل عن ماهية اليوتوبيا الإسلامية، ووجودها الفعلي، وإسقاطها على القوى السياسية الإسلامية التي تتصدر المشهد السياسي سواء من موقع الحكم أو من موقع المشاركة فيه أو معارضته، لنخلص في الأخير إلى الحكم على التجارب الإسلامية الحالية بالفشل، حسب الكاتب. وقبل الخوض في نقد المقال والدخول إلى تفاصيله، أجدني مضطرا إلى إعطاء موقف عام حول المنهجية التي اعتمدها الكاتب في تقييم تجربة الإسلاميين والنفس الذي طغى عليه. فالمقال رغم أهميته وظرفيته التاريخية، أجده مغرقا في العموميات وأحكام القيمة دون تدعيم أحكامه بأدلة تؤكد كلامه، من خلال أمثلة واقعية أو أدبيات وإنتاجات فكرية وأدبية أسهب في انتقادها، أو الممارسات والسياسات التي يؤاخذ أصحابها عليها. وكمثال على ذلك عندما يقول: “… وعلى عكس العلاقة المرنة التي كانت قائمة بين الدين والسياسة في حضن إسلام القرون الأولى، فإن الحركة الإسلامية ممثلة على الخصوص في جماعة الإخوان المسلمين المصرية، أصبحت تفرض نموذجا صلبا وصارما…، أصبح عليهم أن يكتفوا بالتمييز بين المسلم والكافر. وهكذا، فمصطلحات مثل “جهاد”، الذي يعني أصلا “بذل الجهد على النفس”، كما يعني “الحرب المقدسة”، و”التكفير”، والتي هي مفاهيم كامنة ودفينة في عمق الفقه الإسلامي تم النبش عنها واستخراجها، وتمت إعادة إنتاجها بصيغة أخرى تقصد تبرير خوض المقاومة والكفاح في عالم ثنائي ومنشطر يتميز بالتعارض بين الإسلام والغرب. وهكذا لم يعد الإسلاميون ينظرون إلى دينهم ككيان أبدي خالد بلا حدود، يمثل مجموع سيادة الله على الكون وخلقه، فعوض هذا أصبح لهم هدف واضح لا لبس فيه، الوصول إلى السلطة”. والملاحظ من خلال هذا الكلام وغيره كثير في مقاله أنه يتسم بالعموم والإطلاق، ومغرق في اتهام النوايا دون دليل أو بيان (فعوض هذا أصبح لهم هدف واضح لا لبس فيه، الوصول إلى السلطة). وقبل تحليل هذا الخطاب وتفكيكه ضمن سياقات تاريخية وسياسية وفكرية، يجدر البدء في تخصيص الجزء الأول من هذا الرد على ضبط مفهوم اليوتوبيا الإسلامية، ومدى صوابية إسقاطها على الحركة الإسلامية.
مفهوم اليوتوبيا أو الطوباوية: إن استعمال الكاتب لمصطلح “اليوتوبيا” الإسلامية يفرض علينا ليس فقط، الوقوف على مفهومه وتاريخ وظروف استعماله سياسيا وأدبيا، بل يجب ضرورة التساؤل حول سبب وخلفية إسقاط هذا الوصف على الحركة الإسلامية. وبعد العودة إلى بعض المعاجم والمراجع التي تناولت مصطلح ومفهوم “اليوتوبيا”، خاصة في علم الاجتماع، فاليوتوبيا هي أفكار متعالية تتجاوز نطاق الوجود المادي للمكان، وتحتوي على أهداف ونوازع العصر غير المحققة، ويكون لها تأثير تحويلي على النظام الاجتماعي القائم. “يوتوبيا” كلمة يونانية u-topos، أي “ليس في أيِّ مكان” بالعربي “الطوباوية”. “اليوتوبيا”، هي قصة خيالية”قصة خيالية o “فلسفة”فلسفية وسياسية كتبها “فيلسوف”الفيلسوف والمفكر البريطاني “توماس مور”توماس مور ونشرت “لغة لاتينية”باللغة اللاتينية ، وتروي القصة التقاليد السياسية والأعراف الدينية والاجتماعية “جزيرة”لجزيرة معزولة وغير معروفة.ابتكر توماس مور هذه التسمية، وأطلقها على مكان لا وجود له في أي مكان، وعلى حضور غائب، وحقيقة غير حقيقية. وقد تخيلها على شكل جزيرة «من أفضل الجمهوريات» عاصمتها مدينة شبحية تسمى آموروت Amurote، ونهرها آنهيدريس Anhydris هو نهر بلا ماء، ورئيسها آديموس Ademus هو أمير بلا شعب، وسكانها من شعب الآلاوبوليت Alaopolites، وهم مواطنون بلا مدينة، وجيرانهم الأكوريون Achoréens، وهم سكان بلا بلد، أي إن العالم كما طرحه مور من هذا المنظور عالم معكوس أراد به إدانة شرعية العالم الصحيح الواقعي. وكان لهذا المؤلَّف أصداؤه الممتدة بين المثقفين الأوروبيين في عصره حتى القرن التاسع عشر، وحتى صارت كلمة يوتوبيا تسمية لنوع أدبي يراوح بين الخرافة وقصص الرحلات، ثم صارت تسمية لنماذج وتصنيفات للأمكنة المثالية للعيش البشري. ولقد سبق الفيلسوف توماس مور العديد من الفلاسفة الذين تحدثوا عن المدينة الفاضلة، وعلى رأسهم الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه الشهير “جمهورية أفلاطون”. وعلى صعيد الأدب العربي ظهرت منذ القديم بعض الأعمال ذات الصبغة الطوباوية، والتي تتحدث عن عالم قَصِيٍ تتحقق فيه أحلام البشر المؤمنين الصالحين بالعدالة والمساواة والخير. ومن هذه الأعمال «رسالة الغفران» للمعري، إضافة إلى عدد من مؤلفات الفارابي ومنها «المدينة الفاضلة» و«تحصيل السعادة». من خلال الكتابات التاريخية والمعاجم التي تتحدث عن اليوتوبيا، يتضح أن هذا المفهوم يروم الحديث عن المدينة أو الدولة الفاضلة التي ينتشر فيها العدل والسعادة والخير، دولة خالية من الظلم والقهر والاستعباد، دولة بلا أحزان أو فقر أو تناقضات اجتماعية، لا يحتاج فيها الإنسان لا إلى قوانين ولا محاكم ولا مؤسسات بيروقراطية… دولة مثالية في الخيال منعدمة في الواقع. والسؤال، متى بشرت الحركة الإسلامية عبر مجموع الرقعة الإسلامية، ومنذ نشأتها الأولى مع الشيخ حسن البنا بدولة مثل هذه؟ وأين تلك الكتابات والمؤلفات التي تحدث فيها الإسلاميون عن المجتمع الفاضل أو الدولة الفاضلة في مشاريعهم السياسية أو الاقتصادية؟ عدا ما بشر به الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالجنة التي تخلو من التعاسة والحزن، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. إن علاقة الحركة الإسلامية بالعمل السياسي هي علاقة الجزء بالكل، علاقة الفرع بالأصل، هي علاقة الفرد بالجماعة. وهي علاقة موضوعية ممتدة في الزمن منذ تأسيس دولة المدينة في يترب، ومرورا بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقال الحكم إلى صحابته من خلال أشكال متعددة تعبر عن خصوبة الفكر السياسي الإسلامي على مستوى الدولة، وكذا مرورا باختلاف الصحابة في عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما، وما تلى ذلك من تراجعات وانتكاسات أصابت الدولة الإسلامية، خصوصا على مستوى بنية نظام الحكم. وقد أخذت هذه الحركة أشكالا وأحوالا حسب الحقبة التاريخية والظروف السياسية، بدءا من محنة الإمام مالك مع حكم الأمويين (طلاق المكره لا يجوز)، حيث أسقط الأمويون هذه الفتوى على نظام الحكم، أي بمعنى بيعة المكره لا تجوز، وكذا محنة الإمام أحمد في فتنة خلق القرآن، وما تلى ذلك من محن أصابت العديد من العلماء والفلاسفة أمثال ابن تيمية والفيلسوف ابن رشد وابن خلدون وغيرهم، حيث كان موضوع تلك الفتن والمحن هو الموقف من نظام الحكم السائد حينئذ وسبل إصلاحه. وامتدت هذه الحركة الإصلاحية إلى ما قبل سقوط الخلافة العثمانية مع محمد رشيد رضا صاحب مجلة “المنار”، وجمال الدين الأفغاني صاحب مجلة “العروة الوثقى” وتلميذه الشيخ محمد عبده، لتأخذ شكلا جديدا وأسلوبا يتماشى مع طبيعة المرحلة السياسية والاجتماعية بعد سقوط الخلافة والتحول الذي عرفه العالم كله، بما فيه العالم الإسلامي الذي كان يعيش أحلك أيامه الحضارية. فمع سقوط الخلافة العثمانية وعلى إثر ذلك، وكرد فعل حضاري وسياسي ظهرت حركة الإخوان المسلمين بمصر على يد الشيخ حسن البنا، الذي طور عملية الإصلاح الإسلامي في قالب منظم وعقلاني حسب تلك المرحلة حيث توجه هذا الإصلاح إلى إصلاح الفرد أولا (أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم تقم لكم على أرضكم)، ثم إصلاح المجتمع، ثم الدولة، ومحاربة الاستعمار والغزو الفكري الغربي. وخلال عملية الإصلاح هاته لم تبشر الحركة لا بيوتوبيا إسلامية ولا بمدينة فاضلة، بل انصب الجهد كله على إصلاح الفرد والمجتمع والدولة ومحاربة البدع والخرافات التي سهلت خضوع العالم الإسلامي للاستعمار. إن جهود الإصلاح في العالم الإسلامي عامة (محمد إقبال، أبو الأعلى المودودي، أبو الحسن الندوي، بديع الزمان النورسي..)، أو في المشرق العربي خاصة مع عبدالرحمان الكواكبي، صاحب كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، وسيد قطب “صاحب الضلال”، وفي المغرب العربي مع عبدالحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، ومحمد الطاهر بن عاشور في تونس وصاحب “تفسير التحرير والتنوير”، والمختار السوسي وأبو شعيب الدكالي وعلال الفاسي وغيرهم في المغرب، تنوعت وتعددت، فأخذت أشكالا فردية وجماعية منظمة، ولا ينكر متتبع موضوعي أن من ضمن مواضيع الإصلاح عند هؤلاء المصلحين هو الشأن السياسي وإصلاح الدولة، إلى جانب الدعوة إلى طرد المستعمر وإصلاح تدين الفرد والمجتمع على ضوء قيم الإسلام وتعاليمه، والعودة إلى منهج السلف الصالح. إن جهود الإصلاح التي برزت خلال تلك الفترة لم تكن فاشلة أو قاصرة عن تحقيق أهداف الإصلاح وإحداث التغيير المنشود، بل شكلت لبنة من لبنات الإصلاح الأولية في ظل تقلبات دولية بين حربين عالميتين، وانتشار ظاهرة الاستعمار، وظهور حركات التحرر والاستقلال التي انتهت بالاستقلال العسكري (دون الاستقلال السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي)، فساهمت في ظهور حركة ثقافية وفكرية شكلت مادة علمية مهمة لفهم طبيعة النظام السياسي العالمي الذي يعطي كبير عنايته إلى الديموقراطية وحقوق الإنسان، خاصة مع سقوط جدار برلين ونهاية حقبة الثنائية القطبية. لقد جدد الفكر السياسي الإسلامي علاقته مع العمل السياسي الميداني والمشاركة السياسية، وكان ذلك منذ وقت ليس بالقصير مع التجربة التركية في عهد نجم الدين أربكان (حزب الرفاه)، بعد مشاركات سياسية عديدة توجت بترؤس أول حكومة إلى جانب العلمانية تانسو تشيلر سنة 1996، وانتهى الأمر بالانقلاب عليه من طرف الجيش وحل الحزب. التجربة ذاتها خاضتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر خلال سنة 1992 والفوز الساحق في الانتخابات البلدية، وانتهت هي الأخرى بالانقلاب على النتائج من طرف الجيش واستقالة الشاذلي بن جديد وحل الحزب ودخول الدولة في حرب أهلية مدمرة. كما لم تسلم تونس من انقلاب النظام الاستبدادي التابع لابن علي القادم من الداخلية على نتائج الانتخابات البلدية مع حزب النهضة، بعد الانقلاب الأبيض لابن علي على بورقيبة، وإدخال تونس في أبشع نظام استبدادي خلال فترة التسعينيات. هذا التوجه العام القائم على فتح نافذة صغيرة للإسلاميين قصد المشاركة المحدودة والمتحكم فيها استفادت منه الحركة الإسلامية المغربية، رغم أنها تأخرت ببضع سنوات عن مثيلاتها، وكانت أول مشاركة مع سنة 1997 في الانتخابات البلدية كمستقلين، ثم في الانتخابات البرلمانية سنة 1998، وإلى اليوم نجاحاتها في تصاعد مضطرد ومتدرج بشكل طبيعي ومنطقي، بالرغم من حملات التضييق والتشويه التي لازمت حزب العدالة والتنمية في جميع المحطات الانتخابية، ورغم النجاحات الباهرة التي جاءت عقب حركة 20 فبراير إلا أن النتائج تظل منطقية، في سياق اضطراد نجاحات حزب العدالة والتنمية في جميع الاستحقاقات. وخلال رحلة الإسلاميين في فضاءات العمليات الانتخابية في العديد من الدول لم نسمع لأي توجه منهم أنه جاء بالحل الجامع المانع لمجموع مشاكل الشعوب العربية التي عاشت لعقود طويلة تحت وطأة الاستعمار والتخلف والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والقهر الاقتصادي، بل في كل أدبياتهم وأوراقهم المذهبية يعتبرون أنفسهم مجرد مساهمين في عملية الإصلاح مع الحفاظ على هوية المجتمع التي ارتضاها هذا الأخير لنفسة من منطلق المرجعية الإسلامية، دون احتكار لهذه المرجعية، كما هو الشأن بالنسبة إلى باقي الأحزاب التي تجهر أو تتبنى مرجعية تناسب قناعاتها (ليبرالية أو اشتراكية)، والكلمة الفصل حسب القيم الديمقراطية التي يتغنى بها السياسيون هي للشعب فقط. لم يغب عن الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية ولو للحظة واحدة أن مشاركتهم في العمليات السياسية في مختلف المحطات، هي عملية تراكمية تدريجية، تحرص على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وتحرص على الإصلاح الهادئ بعيدا عن الاستفزاز أو احتكار الحق والصواب، وهذا لا يلغي حق ممارسة التدافع السياسي والمنافسة الانتخابية من أجل الظفر بثقة الشعب، وتنزيل برنامجهم السياسي كليا أو جزئيا.. جاءت ثورات الربيع العربي بشكل مفاجئ وغير متوقع في سياق اجتماعي وسياسي تركز فيه الاحتقان وتجمع التوتر في بقعة جغرافية صغيرة عرفت أبشع ديكتاتورية خلال تلك المرحلة، هذه الثورات زعزعت أركان بعض الأنظمة العربية المستبدة والشمولية، لتحرك عمليات سياسية وانتخابية بوأت أحزاب الحركة الإسلامية مواقع متقدمة في جميع الدول التي أصابتها رياح الربيع العربي، وفتحت المجال لمشاركة الإسلاميين في الانتخابات التي انتهت بنتائج فاجأت الإسلاميين أنفسهم قبل غيرهم. وأصبح تزعم الإسلاميين للمشهد السياسي أمرا واقعا أملته التحولات الاجتماعية والسياسية، وأمرا مزعجا للغرب المنافق وفلول الأنظمة الاستبدادية المتبقية في الدولة. أمام هذا التحول التاريخي والطبيعي في السياقات التي أوضحتها، يأتي الكاتب بحكم غريب مفاده كما جاء في مقاله: “فعوض هذا أصبح لهم (الحركات الإسلامية) هدف واضح لا لبس فيه، الوصول إلى السلطة”، وكأن الوصول إلى السلطة في إطار عملية انتخابية قانونية، هي جريمة إذا ما طلبتها أحزاب الحركة الإسلامية، أو بالأحرى الوصول إلى السلطة التي هي حق لباقي الأحزاب دون الحركة الإسلامية. وغني عن البيان أن هدف جميع الأحزاب السياسية التي تشارك في العمليات الانتخابية هو الوصول إلى السلطة من أجل تنزيل برنامجهم السياسي إلى الشارع بعد حصولهم على ثقة الناخبين، بل إن الاهتمام بالشأن العام وممارسة السلطة والحكم هو من صميم التصور الإسلامي ومن أوجب واجباته إلى جانب الاهتمام بجوانب تربوية واجتماعية أخرى (الإسلام دين ودولة ).
الحركة الإسلامية: وهم الفشل وتحدي النجاح تجربة الإخوان المسلمين في مصر من أحكام القيمة والمجانبة لمنطق الموضوعية والإنصاف ما قاله الكاتب في حق الحركة الإسلامية عامة ومصر خاصة (مع استثناء تونس) عندما قال: “لقد فشلت الحركة الإسلامية اليوم، في تحقيق وعدها الوهم (اليوتوبي). فهذه الحركات تم في العالم العربي .. تحييدها أو هي في حالة إفلاس …”، إلى أن قال: “ففي مصر حكم الإخوان المسلمون البلد بطريقة كارثية قبل أن تتم الإطاحة بهم في يوليوز 2013 عن طريق انقلاب عسكري..”. لقد بينتُ أن الحركة الإسلامية عندما قررت التعاطي مع الشأن العام والمشاركة السياسية في مختلف الأقطار، لم يكن ذلك من منطلق وعد يوتوبي خاص أو بدافع احتكار الدين والوصاية على الأخلاق، بل تلك المشاركة كان من منطلق الإيمان بواجب المساهمة في الإصلاح من خلال مرجعية آمنوا بواقعيتها وضرورتها وانسجامها مع طبيعة المجتمع الذي يتحركون فيه، هذا المجتمع الذي لا يجد نفسه إلا ضمن ومع ومن أجل هذه المرجعية، لذلك قرروا خوض غمار العمل السياسي والمساهمة في الحكم ومحاولة تنزيل برنامجهم السياسي الذي يتنافس مع كل البرامج السياسية المعروضة على الناخبين الذي له وحده حق الاختيار وقبول هذا ورفض ذاك. ومن الطبيعي جدا أن يصطدم البرنامج عند تنزيله بجيوب مقاومة التغيير وقوى الرفض ولوبيات الضغط التي تريد الحفاظ على مكانتها وامتيازاتها السياسية والاقتصادية.. وهذه ظاهرة سياسية لا تخلو منها حتى الدول العريقة في الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة. وهذه الوضعية لم ولن يسلم منها الإسلاميون حديثو العهد بممارسة السلطة في دول كانت غارقة إلى عهد قريب، وإلى حدود اليوم في الحكم المستبد والشمولي، خاصة الإخوان المسلمين في مصر. لذلك، فاستغرابي وصل قمته عندما يصف الكاتب حكم الإخوان المسلمين بالكارثي، وكأن الحكم الذي كان قبلهم، خاصة الثلاثين سنة، مع محمد حسني مبارك، وحكم خمس سنوات الذي بعدهم مع عبدالفتاح السيسي، كان جنة ورخاء على المصريين. فما هو الوصف الأنسب إذن حسب الكاتب للانقلاب على الشرعية ومجازر “رابعة” وحملة الاغتيالات والاعتقالات، وتفقير الشعب المصري وإذلاله أمام العالم، وحصار شعب غزة والدخول في مؤامرات وتواطؤات لفائدة بعض دول الخليج والكيان الصهيوني. فمهما قيل عن تجربة الإخوان المسلمين في مصر وما واكبها من أخطاء ومؤاخذات، فإن فترتهم عرفت لأول مرة في تاريخ مصر بعد الملكية أول رئيس منتخب، وتوسيع مجال الحريات ومحاولة تقوية الاقتصاد المصري وتحريره من التبعية الاقتصادية، وتشكيل أحلاف اقتصادية وسياسية جديدة، كل ذلك كان في العهود السابقة وفي عهد السيسي الآن ممنوع حتى من مجرد الحلم به. إن إفشال (وليس فشل) تجربة حكم الإخوان المسلمين في مصر ساهمت فيه العديد من القوى المضادة في الداخل (الجيش والأمن ولوبيات الفساد الذين حافظوا على ولائهم للنظام السابق والمتواطئ مع الخارج، والإعلام المتواطئ، وضعف وعي الشارع المصري الذي لم يعرف كيف يحافظ على ثورته)، والخارج (الكيان الصهيوني والغرب المنافق وعلى رأسهم أمريكا وبعض دول الخليج الذي أصبحت روائحهم في الخيانة تزكم الأنوف)، بسبب مركز ثقل مصر في المنطقة وتماسها الجغرافي مع الكيان الصهيوني وكونها تضم أكبر تجمع بشري عربي، والخوف من تحول عقيدة الجيش المصري من حماية حدود الكيان الصهيوني ودول الخليج إلى عقيدة المقاومة… وبالتالي، إن التربص بتجربة الإخوان المسلمين من أجل إفشالها بشتى الطرق الخسيسة والقبيحة ليس غريبا أو عجيبا، بل كان منتظرا، والأمر غير المنتظر وغير المتوقع هو سذاجة قيادة الإخوان المسلمين في التعامل مع هذه المؤامرات، رغم تحذيرات الرئيس التركي لهم..
ب تجربة العدالة والتنمية في المغرب لقد حكم الكاتب على الحركات الإسلامية وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية بالمغرب التي انخرطت في العمل السياسي في مختلف دول الوطن العربي بالفشل في ثلاث واجهات: فشل في ابتكار حلول اجتماعية واقتصادية معتبرة تتجاوز الشعارات؛ فشل الأحزاب السياسية، باستثناء تونس، في تنفيذ سياسية مندمجة ودمقراطية؛ الدخول في مناورات سياسوية وإبرام تحالفات مع أنظمة سلطوية. وأضاف الكاتب في حق العدالة والتنمية أن كل ما يهتم به هذا الأخير هو تحسين علاقته بالملكية.. وهذا أهم بكثير حسب رأيه من المطالبة بإصلاح النظام.. وأن خطابه الديني كشف عن تبعية للسلطة الملكية (النصيحة للأئمة) و(الطاعة كفضيلة).. كنت أتمنى أن يتقدم الكاتببأدلة واقعية تؤكدمجموع كلامه وأحكامه من أجل إقناع القارئ، وفي غياب ذلك يبقى كلامه داخل دائرة الانطباعات الخاصة وأحكام القيمة التي لا ترتقي إلى مستوى التحليل السياسي الدقيق والقراءة الواقعية والعلمية لمختلف المواقف والقرارات والتحالفات السياسية التي اتخذتها مجمل الأحزاب السياسية موضوع نقد الكاتب. ومع ذلك أجدني مضطرا إلى توضيح وتبيان مواطن ضعف هذه القراءة، التي يغلب عليها التحامل أكثر من النقد، والاختلالات التي واكبت عملية التحليل والاستنتاج. ابتداء أتساءل كما يتساءل المتتبع للشأن العربي، ما هي الحلول الاجتماعية والاقتصادية، والسياسات المندمجة والديموقراطية التي قدمتها كل الأنظمة العربية والأحزاب السياسية في الوطن العربي منذ حصول هذه الدول على الاستقلال إلى اليوم (أكثر من خمسين سنة)؟ ألم يدخل الكثير من الأحزاب في مؤامرات وتواطأت مع السلطة ضد الحركة الإسلامية والسكوت على سنوات التعذيب والسجون وانتهاكات حقوق الإنسان، وأحيانا مباركة هذه الانتهاكات، من طرف بعض الأحزاب العلمانية والتي تدعي الديمقراطية والقومية، خاصة في مصر أيام مبارك وتونس أيام بن علي، والمغرب بعد أحداث 16 ماي الإرهابية، حيث طلب حزب الاتحاد الاشتراكي بحل حزب العدالة والتنمية وتحميله المسؤولية المعنوية،.. وما أثر هذه الحلول على واقع المجتمعات العربية؟ ألم تتسبب في تجهيل وتفقير الشعوب العربية، وإحكام القبضة على رقابهم، وخنق الحريات، وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وتكريس التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية للغرب؟ والعديد من المصائب والأعطاب الحضارية التي لن يتعافى منها الجسد العربي بين عشية وضحاها… هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟ وبصيغة أخرى أوضح، هل تصلح الحركة الإسلامية في خمس سنوات أعطاب الأنظمة العربية التي عششت عقودا؟ إن قرار حزب العدالة والتنمية بالمشاركة في عملية الإصلاح نابعة من إحساسه بالمسؤولية تجاه المغرب شعبا ونظاما، ووعيه التام بأن ذلك واجب شرعي ووطني، ومدرك أن عملية الإصلاح هي عملية صعبة التحقيق، تراكمية الإنجاز، تتطلب قدرا كبيرا من المرونة السياسية، والواقعية والتدرج، والصبر على الأذى، إضافة إلى التفكير في حلول اجتماعية واقتصادية وسياسية إلى جانب مختلف القوى السياسية دون وصاية أو احتكار. لذلك سيلاحظ المتتبع الموضوعي المنصف أن مشاركة الحزب أخذت طابعا تصاعديا منطقيا، وتراكميا واقعيا ومتدرجا. فعلا، لقد أعطى حزب العدالة والتنمية للحياة السياسة طعما جديدا بعد أن كانت بلا طعم، وأعاد لها الحياة بعد أن كانت جثة هامدة، وحركية وانتعاش بعد أن أصابها الكساد والفساد والاستبداد.. ليس هذا فحسب، لقد أدخل الحزب على الحياة السياسية والحزبية قيما كانت مغيبة أو مغتالة، وعلى رأس ذلك على سبيل المثال لا الحصر: احترام مواعيد المؤتمرات والتداول الديمقراطي على المسؤولية، دون محاباة لأحد، وتجلى ذلك بوضوح في المؤتمر الوطني الثامن حيث رفض الحزب منح عبدالإله بنكيران ولاية ثالثة، وما واكب ذلك من نقاش قانوني وسياسي داخلي حاد وجاد أبان عن حيوية هذا الحزب وخصوبته الفكرية والنضالية. احترام قوانين وأنظمة الحزب وترتيب جزاءات على مخالفتها. انضباط ونضالية أعضاء الحزب مقارنة مع باقي الأحزاب السياسية الأخرى، ويتجلى ذلك في العديد من المحطات الوطنية والاستحقاقات الانتخابية، حيث أبان مناضلو الحزب على منسوب عال من النضج والمسؤولية والوطنية الحقة. ويكفي الحزب فخرا أنه الوحيد الذي أخذ شهادة الشفافية والنزاهة من تقرير المجلس الأعلى للحسابات، بعدما أرجع ما تبقى من أموال الدعم المخصصة للانتخابات، بخالف كل الأحزاب التي تدعي النزاهة والشفافية. قد يقول قائل، وبماذا ينفع كل هذا المجتمع المغربي؟ إن أكبر وأخطر أزمة يعيشها المغرب، هو غياب التخليق في الحياة السياسية والحزبية، فكيف لحزب سياسي فشل في اختبار صغير، متمثل في إرجاع ما تبقى من أموال الدعم الانتخابي إلى الدولة، أن ينجح في امتحان كبير، وهو المساهمة في تسيير هذه الدولة وقد قام بسرقتها حزبيا البارحة؟ إن فساد الحياة السياسية بالمغرب، هو مظهر من مظاهر فساد الأحزاب السياسية، لأن هذه الأخيرة هي المخول لها دستوريا وسياسيا أن تسير الدولة عن طريق المشاركة في “الحكم”، ومحاربة الفساد، ونشر العدل، وإصلاح البلاد، وإيجاد حلول اجتماعية وسياسية… فكيف لأحزاب سياسية يعشش الفساد في أوصالها ومفاصلها وأطرافها أن تصلح هذا الوطن المريض، لقد بدا واضحا أن أحد أهم أسباب مرضه، هو الأحزاب الموبوءة والفاسدة. لذلك، فإني أقترح ألا يسمح لأي حزب سياسي أن يشارك في أي حكومة إلا بعد أن يدلي بشهادة إبراء ذمة من المجلس الأعلى للحسابات، تفيد أن ذمته خالية من أي دين لفائدة الدولة، وألا يشارك في أي عملية انتخابية إلا بعدما يدلي بما يفيد أنه جدد هياكله التنظيمية في مواعيدها المحددة وطبقا للقانون، بهذه الطريقة نكون قد سلكنا الطريق الصحيح نحو تخليق الحياة السياسية بتخليق الأحزاب السياسية. لا ينكر منصف أن جل الحقائب الوزارية والقطاعات الحكومية التي يعمل فيها وزراء حزب العدالة والتنمية، هي الأكثر إنتاجية ومردودية وحكامة ونزاهة وترشيدا وشفافية، مقارنة مع باقي الحقائب التابعة لباقي الأحزاب المشاركة في الحكومة، والأرقام والإحصاءات خير دليل على ذلك سواء في الحكومة السابقة أو الحكومة الحالية، دون إنكار وجود بعض الأخطاء المرتبطة بالتدبير البشري التي لم تصل إلى حد الاختلاسات والخروقات الفظيعة، والتي لا تخفى على أحد في بعض الوزارات، علما أن وزراء العدالة والتنمية يعانون من لوبيات إدارية تسعى جهدها من أجل عرقلة عملهم وإخراجه على غير الصيغة المطلوبة مساهمة في تشويه سمعتهم وتبخيس عملهم.. ولا يخفى على متتبع للشأن السياسي أنه برغم ترؤس الحزب للحكومة، فإنه يعمل ضمن تحالف هجين مفروض سياسيا، هذا التحالف في مجموعه يمارس حقيقة دور المعارضة الداخلية داخل الحكومة وعرقلة أدائها وتسفيه نجاحاتها، والحد من حركيتها ومردوديتها، وذلك بإدخال الحزب في خصومات سياسية تافهة مستنزفة للحزب والحكومة خدمة لحسابات غامضة (تصريحات مولاي حفيظ العلمي وعزيز أخنوش وغيرهم، وفي الحكومة السابقة تصريحات وخصومة شباط مع الحزب وبنكيران). وأن الحزب يشتغل تحت سقف متدني جدا سياسيا ودستوريا، الأمر الذي يستدعي المزيد من النضال السياسي، إلى جانب باقي القوى السياسية الحية من أجل رفع سقف العمل السياسي وتوسيع الصلاحيات الحكومية حتى تتمكن من تنزيل المشاريع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتكون موضوع مساءلة ومحاسبة من طرف الشعب في إطار استحقاقات انتخابية تنافسية نزيهة وشفافة ومتكافئة. لذلك، فإن الحزب يستوعب المرحلة السياسية التي يشتغل فيها، ويتعامل مع مختلف المتدخلين في الشأن العام السياسي بالمرونة المطلوبة، والواقعية الضرورية، وبحكمة وتدرج، مستحضرا بشكل كبير موازين القوى، ومستوى نضج الشارع والفرقاء السياسيين، لذلك، فهو يجتهد في أن يبقى في منأى عن الاستفزاز السياسي والاستدراج إلى معارك هامشية تبعد تركيزه عن الإصلاح الجاد والمسؤول، بالشكل الذي يحفظ استقرار البلد وتجنيبها توترات وانفلاتات أمنية، سيؤدي ثمنها غاليا الشعب المغربي وباقي مؤسسات البلد. وقبل أن أختم هذا المحور، أثارني اتهام الكاتب لحزب العدالة والتنمية بأن خطابه الديني كشف عن تبعية للسلطة الملكية (..)، واتهامه بأن المبادئ التي كان ينادي بها من قبل، مثل الدفاع عن حقوق الإنسان وعن حرية التعبير، فقد تم وضعها مضيفا في الهامش.. واتهمه بأنه لا يستطيع أن ينادي بالتغيير الديمقراطي والإصلاحات الدستورية، وفي الوقت نفسه يمنع على نفسه حسب ادعاء الكاتب الاعتراض على الحق الأسمى للملك في التشريع باتخاذ القرارات الملزمة في هذه المجالات.. لا أدري من أين جاء الكاتب بهذه المعطيات التي سبق أن بينت آنفا أنها تفتقد لأي دليل أو تأكيد حقيقي، فلا أدري ما المواقف والتصريحات والممارسات التي استقى منها الكاتب أن حزب العدالة والتنمية تخلى عن دفاعه عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، والحال أنه ما يزال يمارس دوره الحقوقي والسياسي والاجتماعي من أجل النهوض بالمغرب حقوقيا وسياسيا واجتماعيا، بل الأكثر من ذلك أن بعض أعضائه هم من ضحايا حقوق الإنسان وحرية التعبير، وهم موضوع متابعات قضائية كيدية، وأن الحزب برمته يعيش حالة تضييق ومضايقات من أجل إفشال تجربته المتميزة في التسيير والتدبير سواء على المستوى الحكومي أو على مستوى المجالس الجماعي، التي تعيش مؤخرا تحت متتالية عزل الرؤساء التابعين إلى حزب العدالة والتنمية بسبب حسابات سياسوية ضيقة باستعمال السلطة والقضاء. أضف إلى ذلك أن مسألة الإصلاح السياسي والدستوري هي من ضمن أولى أولويات الحزب التي تؤكدها وثائقه الحزبية وبياناته ومؤتمراته الوطنية، وسيظل ينادي بهذه الإصلاحات حتى تصل إلى أرقى أشكالها، وهذا ليس معناه أن يدخل في صراع مع الملكية أو النظام، فالحزب اختار عن وعي ونضج أن يحقق هذه الإصلاحات في إطار الاستقرار السياسي وبتوافق مع الملكية والأحزاب السياسية الحية حفاظا على وحدة المجتمع المغربي وحقنا لدمائه، ولا أرى خيارا أكثر رشدا واتزانا وعقلانية أكثر من هذا. أما في الوضع الحالي، فإن الحزب والحكومة التي يرأسها يشتغل في احترام تام للدستور الذي أعطى صلاحيات واسعة للملك، باعتباره الرئيس الفعلي للدولة، وصلاحيات أقل لرئيس الحكومة، وأن أي تغيير في الصلاحيات لن يتم إلا في إطار إصلاحات دستورية متوافق عليها على غرار دستور 2011، على أن تصبح الحكومة هي المسؤول السياسي في تدبير الحياة السياسية وتخضع للمحاسبة الشعبية عن طريق صناديق الاقتراع.
تعصب أعمى للدولة أم إخلاص مبصر للشعب والوطن؟ لقد قال الكاتب تحت عنوان “تعصب أعمى للدولة”: “… يقدم الإسلاميون أنفسهم في الغالب كضحايا للقمع الغربي، أو للإقصاء من طرف أنظمة سلطوية. غير أنهم في الوقت نفسه يدعون المؤمنين إلى معالجة هذه الشرور والتصدي لها بطريقة عدوانية من خلال نشر العقيدة الإسلامية من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية..”. إن التاريخ القريب يؤكد أن الحركة الإسلامية في مجموع الوطن العربي كانت (وما تزال في بعض الدول) عرضة للإقصاء والمضايقات والتنكيل والسجون، والتاريخ الأسود والقريب لتلك الدول ما يزال يحتفظ بتلك الجرائم (تونس ابن علي، مصر مبارك سابقا، والسيسي حاليا، الجزائر مع الجيش..) باستثناء نظام الحكم بالمغرب الذي حافظ على شعرة معاوية مع الحركة الإسلامية، حيث لم تصل هذه العلاقة إلى حد التنكيل والإقصاء التام، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، عندما أقرأ: “غير أنهم في الوقت نفسه يدعون المؤمنين إلى معالجة هذه الشرور والتصدي لها بطريقة عدوانية.. “. لا أدري هل يتحدث الكاتب عن حركة طالبان في باكستان، أم عن حزب العدالة والتنمية في المغرب؟ إن كل الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية التي اختارت المشاركة السياسية في ظل الدستور المعمول به في تلك الدول، سواء في تركيا العلمانية أو مصر أو تونس أو الأردن أو المغرب .. اختارت ذلك عن وعي وإدراك، ودخول غمار المنافسة الانتخابية شأنها شأن باقي الأحزاب اليسارية أو القومية أو المحافظة أو التابعة للسلطة، على قدم المساواة، من أجل هدف تنشده كل الأحزاب بدون استثناء، هو الحصول على ثقة الناخبين من أجل الوصول إلى الحكم أو المشاركة فيه حسب نتائج الانتخابات، وليس الاستيلاء على السلطة، لأن الاستيلاء عليها لا يكون بالانتخابات، بل بالدبابات كما هو الشأن في مصر حاليا، وكاد يقع في تركيا بعد انقلاب 15 يوليوز الفاشل، والذي أفشله بالمناسبة الشعب التركي، الذي تذوق نعمة الحرية والديمقراطية والرفاه مع حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي، وقرر هذا الشعب أن يقدم نفسه قربانا من أجل إسقاط الانقلاب والحفاظ على وضعه الحالي، وكذلك كان. سأكتفي بآخر ملاحظة عن المقال، علما أن هناك نقاطا أخرى تستدعي النقاش والتحليل سأضرب صفحا عليها تفاديا للإطالة. والملاحظة التي سأختم بها مقالي متعلقة بقول الكاتب: “.. ولقد سقط جزء كبير من المنطقة تحت نير التسلط، وأصبح واضحا أن الإسلاميين لا يستطيعون لعب دور المخلص والمنقذ. فوهمهم الكبير الذي كان يعد بالخلاص والانعتاق مقابل انخراط غير مشروط، قد فشل. غير أن وهم الديمقراطية التي بشر بها “الربيع العربي” لم تنتصر كذلك”. سأقسم هذه الفقرة إلى ثلاث فقرات كي يسهل تحليلها منهجيا،
الإسلاميون ودور الخلاص والإنقاذ: لا أدري من أين أتى الكاتب بهذا الادعاء؟ ومتى نادى بذلك الإسلاميون أو بشروا به أو وعدوا الشعوب العربية أنهم حاملوه إليهم؟ فعندما قررت الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية المشاركة في العمل السياسي والدخول إلى الانتخابات، قررت ذلك من منطلق أنها أحد المكونات السياسية المعترف بها قانونيا، ومن منطلق المساهمة وليس الاستحواذ، والمشاركة وليس الاستفراد، والتعاون وليس الاستقواء. والدليل على ذلك أنها كانت أكثر الأحزاب السياسية نظافة في جميع حملاتها، وانضباطا في عملها واحترامها للقانون، وشفافية في وسائلها، وقبولا لنتائج الانتخابات سواء أكانت ضدها أو لصالحها، أي أكثر الأحزاب قبولا للديمقراطية من تلك التي تدعي عن نفسها أنها تقدمية وديمقراطية. والدليل على ذلك، أيضا، أنهم قبلوا الدخول في تحالفات سياسية مع أحزاب أخرى سواء ضمن تحالف حكومي أو القبول ضمن المعارضة، دون افتعال أزمة سياسية، أو التواطؤ مع انقلاب على الشرعية، أو تأزيم الوضع السياسي، والعديد من الأمثلة ليست بعيدة عن ذاكرة الكاتب والمتتبع الموضوعي. وبالتالي، لم تقل يوما هذه الأحزاب، لا في مشاريعها ولا في برامجها السياسية أو الانتخابية، ولا في بياناتها أو أدبياتها أنها تحمل الخلاص والإنقاذ المطلق للشعوب، كما فعلت غيرها من الأحزاب الوحيدة وبشر بذلك زعماؤها، بل تعتبر نفسها من ضمن الهيئات التي تساهم في النهوض بالوطن العربي تنمويا واجتماعيا، إلى جانب باقي الهيآت.
حقيقة الانخراط غير المشروط للحركة الإسلامية في العمل السياسي: لا يخفى على متتبع منصف أن أكثر التنظيمات السياسية، التي كانت عرضة لبطش الأنظمة الديكتاتورية العربية وإقصائها من أي مشاركة سياسية أو غيرها، هي التنظيمات الإسلامية بجميع ألوانها وتوجهاتها، وقد قدمت هذه التنظيمات من أجل الحصول على الاعتراف وحق المشاركة الكثير من التضحيات البشرية وقرون من الاعتقالات (إذا قمنا بجمع جميع سنوات الاعتقال لكل أعضاء هذه التنظيمات)، وألوانا من التعذيب وأصنافا الانتهاكات.. وتارة تنتزع حقا صغيرا بالمشاركة في أحد الاستحقاقات الانتخابية، هو عبارة عن مشاركات فردية أو ضمن هيئة سياسية أخرى، وتارة تساعدها بعض التقلبات والتحولات السياسية غير المنتظرة، وقليل من الانفراج السياسي الاستثنائي لتستطيع التسلل منه من أجل التمثيل الرمزي أو المحدود، والأمثلة على ذلك كثيرة سواء في مصر أو الأردن أو تونس أو المغرب. وبالتالي، فهمُ المشاركة والمزاحمة السياسية وحق الاعتراف كان يشكل أولوية في مراحل الانتهاكات والاقصاء، ومقدم حسب تقدير تلك المرحلة عن وضع الاشتراطات أو شروط العمل السياسي، فوضع الشروط من أجل المشاركة يفترض أن هناك تعادلا وندية في موازين القوى بين الحركة الإسلامية والأنظمة الحاكمة، الأمر الذي كان متعذرا خلال فترة سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، إلى حدود العشرية الأولى خلال هذا القرن. ومع انطلاقة الربيع العربي، دخلت الأحزاب الإسلامية كغيرها من الأحزاب في ورش إصلاح المؤسسات والقوانين والدساتير الوطنية، في إطار توافقات سياسية توجت باستفتاءات وطنية، كان للأحزاب السياسية الإسلامية نصيب مهم في صياغة كل ذلك. وبما أن هناك مكونات سياسية أخرى لها حضور وتمثيل في الشارع العربي، فمن الطبيعي أن يكون لكل مكون أثر وصدى في الإصلاحات أو التعديلات التي تعيشها تلك الدول. فكيف انتهى الكاتب إلى “حقيقة” أن الحركة الإسلامية قررت الانخراط في الحياة السياسية دون وضع شروط لذلك؟ وهل غابت عنه كل هذه السياقات والتطورات والأحداث التي عاشها الوطن العربي الذي أصابته رياح الربيع العربي؟ وهل يجهل أسباب ومسببات الردة السياسية والحقوقية التي اجتاحت هذه الدول، والتواطؤات والخيانات التي رافقت ذلك؟. 6
فشل الديمقراطية الذي بشر به «الربيع العربي»:
هل فعلا، فشل الربيع العربي في تحقيق أحلام وآمال الشعوب العربية؟ أعتقد أن أي جواب بالنفي أو بالتأكيد هو جواب متسرع ومنفعل، وبعيد كل البعد عن الموضوعية، وعن الإلمام بحركة التاريخ وتطور المجتمعات. والقول بفشل الربيع العربي في تحقيق الديمقراطية المنتظرة لا يخرج عن هذا التسرع والانفعال، وبالرجوع إلى العهد القريب، وما سمي من قبل “الربيع الأوروبي” والثورات الأوروبية خلال سنة 1848، حيث كانت تلك الثورات ذات طابع ديمقراطي بهدف القضاء على الهياكل والأنظمة الإقطاعية القديمة واستبدالها بدول وطنية ديمقراطية، وبدأت تلك الموجة بالثورة الفرنسية في فبراير، وامتدت إلى بقية أوروبا واجتاحت أكثر من 50 دولة، دون أي تنسيق بين هذه الثورات، حيث استمرت هذه الثورات طيلة النصف الأول من القرن 19 بين فشل ونجاح، حتى انتهت أوروبا إلى تبني أنظمة ديمقراطية على شكل جمهوريات أو ملكيات برلمانية. إذن، أوروبا عاشت أكثر من نصف قرن من الثورات والثورات المضادة، والربيع العربي لن يخرج عن هذا القانون الاجتماعي، فكي تنجح أي ثورة وتستقر على شكل معين، لا بد لها من تحديات وصعوبات ومواجهات قد تكون أحيانا دموية، والتي تشكل في مجموعها تراكمات على مستوى وعي الشعوب ونضالاتها وخبراتها، لتصل إلى أرقى أشكال الثورة التي تحقق أهدافها المنشودة. إن الربيع العربي ما يزال في بدايته الجنينية، ولم تدخل بعد الثورة العربية مرحلة العنفوان والتحدي، الذي ستقدم خلاله الشعوب العربية قرابين كثيرة من أجل الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية على مستوى الشباب والطبقة الوسطى، لتصل بعد ذلك إلى مرحلة النضج السياسي والاجتماعي العام، هذه المرحلة تتطلب هي الأخرى المزيد من النضالات والتضحيات الكبيرة، والتي يتزعمها مفكرو ومثقفو وسياسيو الشعوب العربية، ثم تأتي بعدها مرحلة البناء الديمقراطي الذي تتوق إليه الشعوب العربية قاطبة. إنها رحلة عقود، وليست عمل سنة أوسنتين، فالشعوب العربية عاشت قرونا تحت التخلف، وعقودا تحت الاستعمار الأجنبي، وعقودا أخرى تحت استبداد الأنظمة العربية وفسادها واستغلالها وتبعيتها للغرب، ومن العبث أن نطالب هذه الشعوب وربيعها العربي أن يحقق خلال سنة أو حتى عشر سنوات ديمقراطيتها الموعودة. وختاما، لقد أبانت جل الأحزاب الإسلامية التي اختارت منهج المشاركة السياسية من داخل مؤسسات الدولة عن نضج كبير في اختياراتها، وتقبل للآخر، فضلا عن استعدادها للعمل المشترك مع الكل، وتعامل بواقعية معقولة وتدرج منطقي بشكل يحفظ استقرار هذه الدول وحقن دماء شعوبها، هذا الاختبار الذي فشلت فيه معظم الأحزاب القومية أو العروبية أو الليبرالية أو غيرها، فالمرجو القليل من الإنصاف والبعد عن التحليل المؤدلج أو المسيس.