الساعة: السادسة والنصف مساء. المكان: المعهد الثقافي الفرنسي في البيضاء. أما الحدث: فهو سمر ليلي بطعم فلسفي محض، إذ حج الراغبون في الغوص في بحر الفلسفة بتلاوينها ومدارسها المختلفة من كل حدب وصوب لحضور ليلة الفلاسفة ” La nuit des Philosophes “. تعود ليلة الفلاسفة هذه السنة في دورتها الخامسة لإثارة الجدلية الواقعة بين العقل والعاطفة في الكتابات الفلسفية. أزيد من ثلاثين فيلسوفا ومفكرا دعاهم المعهد الفرنسي في البيضاءوالرباط إلى تأطير لقاءات فكرية حول مواضيع متنوعة، كالفن والدين والجنس والحياة في عمومها من منظور فلسفي. وفي كلمة، ألقاها بمناسبة الندوة الافتتاحية، قال الفيلسوف الفرنسي ” Jean Baptiste Brenet”، الذي يُدَرس الفلسفة العربية في جامعة السربون: “جرت العادة لدى عدد من الفلاسفة على غرار ابن رشد على تقديس العقل بشكل كبير وتشكل لدينا ما يسمى بالعقلانية المتطرفة التي تنظر للإنسان على أنه كتلة عقل لا أكثر، وأن العقل هو المكون الأساسي لمعارفنا ومداركنا مع إقصاء جميع المكونات الأخرى المساهمة في تكوين وعي وإدراك الإنسان من بينها العواطف والمشاعر”، التي عمد البعض في تحليلاته الفلسفية على إلغائها بشكل نهائي، بحسب الفيلسوف الفرنسي. وأشار الأخير في مداخلته المعنونة ب”L'intelecte d'amour ” أن المفكر بلا روح وجسد لا يساوي شيئا، ويجب النظر من وجهة نظره للفلسفة من زواية أخرى غير العقلانية المتطرفة، ولا بد من إعطاء الأهمية، أيضا، للجانب العاطفي للإنسان. النقطة الأخيرة التي أثارها “برونيت” شكلت اللبنة الأساس التي بنيت عليها ليلة الفلاسفة، والتي قاربت في مختلف ندواتها المجالات الحياتية من فن وإعلام وحياة، انطلاقا من البعد الفلسفي. التفكير الحر ومواجهة أفكار الآخر المديرة العامة للمعاهد الفرنسية في المغرب “Clélia Chevrier Kolacko”، وفي تصريح ل “أخبار اليوم” قالت إن الهدف الأساس من وراء تنظيم ليلة الفلاسفة في نسختها الخامسة، هو الفلسفة في حد ذاتها والمساهمة في الدفع باتجاه التفكير بشكل حر وممارسة العقلانية ومواجهة أفكار الآخرين. وأضافت كاليليا أن هذا الهدف هو ما تعمل على تحقيقه وتشجيعه جميع فروع المعهد الفرنسي في المغرب عبر فتح النقاشات وعقد اللقاءات. وأكدت المتحدثة في تصريحها أن الجديد في الدورة الحالية، هو تنظيم ورشات تستهدف مختلف الفئات والأعمار بمن فيهم الأطفال، وفقا لما يتناسب وإمكانياتهم وقدراتهم العقلية لتشجيعهم على البحث والتفكير، كما أن هنالك أساتذة ودكاترة في مجال الفلسفة من المغرب وفرنسا ودول أخرى أجنبية أشرفوا على تأطير اللقاءات والورشات في الرباطوالبيضاء، حيث جرى تنظيم الحدث الفلسفي. وعن مدى اهتمام شباب اليوم بالفلسفة بتلاوينها المختلفة ومشاربها ومدارسها المتعددة والتعقيد الذي يصاحب عادة تصور هذا المفهوم في أذهان الناس، قالت المديرة الفرنسية إن الجواب عن هذا السؤال ترجمه الحضور الغفير الذي شهدته ليلة الفلاسفة وقدوم شباب وطلاب من مدارس وجامعات من مدن قصية لحضور الحدث، وهو ما يعكس اهتمام فئة واسعة من الشباب بالفلسفة بتعقيداتها المختلفة، “ولا يمكننا أن نكذب في هذا الموضوع فكل شيء ظاهر للعيان، وكل أجنحة المعهد هنا في البيضاء غصت بالحضور”. وأكدت كاليليا أن هؤلاء الطلبة الحاضرين همهم الوحيد، الدخول في نقاش مع فلاسفة كبار حول مجالات تخصصاتهم، وهو ما سيسمح لهم بإغناء معارفهم والخروج بقناعات ورؤى جديدة للعالم المحيط بهم، وأيضا استشراف ما هم قادرون على فعله في المستقبل. وأردفت المتحدثة أن الندوات المرتبطة بالليلتين حاولت أن تلامس مختلف مشارب الحياة من فن وإعلام وحياة في عمومها، والسعي إلى مقاربة هذه المجالات انطلاقا من بعد فلسفي. أزمة الديمقراطية كل قاعة من قاعات المعهد شملت لقاءً معينا من تأطير أحد الفلاسفة الحاضرين، وفي المكتبة التابعة للمعهد أشرف كلا من الفيلسوف الفرنسي ” Jean Cloud Monod”، وأستاذ العلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني، محمد مواقيت، على تنشيط لقاء حمل عنوان: ”La Crise de la démocratie”. إذ تطرقا في حديثهما لمواضيع متعددة ارتبطت، أساسا، بتراجع الديمقراطية في العالم ككل. وبخصوص المغرب والبلدان العربية، عموما، قال مواقيت إنه لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بمفهومها الشامل في هذه البلدان، لأن هذه المجتمعات لازالت تتعلم أبجديات الديمقراطية. واعتبر الأستاذ الجامعي أنه برغم من توفر عدد من المؤسسات التي تجسد الديمقراطية في جانبها الشكلي مثل البرلمان والانتخابات وغيرها، فإن قناعة الديمقراطية كقناعة حقيقية لاتزال غائبة عن مجتمعاتنا. وبخصوص الإشكالية المرتبطة بفقدان الثقة في هذه المؤسسات والآليات من طرف شعوب المنطقة من بينها المغرب، فقد عزا الفيلسوف الفرنسي أزمة الثقة هذه، إلى عدم احترام الأصوات الانتخابية للمواطنين وعدم أخذها بعين الاعتبار. وأشار المتحدثان إلى أن هنالك نفاقا عالميا، فيما يخص الحديث عن الديمقراطية، وهذا النفاق جرى كشف النقاب عنه من طرف الشعوب التي أصبحت أكثر وعيا به. الفلسفة لم تمت وحان وقتها من مراكش جاء جواد ربيع، 20 ربيعا، طالب في سلك الفلسفة بجامعة القاضي عياض بمراكش، ليحضر ليلة الفلاسفة هذه. وفي هذا الصدد، قال جواد إن مسافة تنقله من المدينة الحمراء إلى البيضاء لحضور مثل هذه اللقاءات لا تهم، طالما أن المحطة أكبر من المسافة. وفي نظر جواد فطالب الفلسفة طبيعي جدا أن يواكب مثل هذه اللقاءات وينخرط فيها، نظرا إلى ما تطرحه من تساؤلات تتعلق بالسيرورة الاجتماعية. وحول ما إذا كانت الفلسفة في عصرنا اليوم، لازالت تستأثر باهتمام الشباب والطلبة عموما، يرى جواد أن الفلسفة حان وقتها اليوم، أكثر من أي وقت مضى، فالفكرة التي راودت الكثير بخصوص التخلي عن الفلسفة باعتبارها استنفذت كل إمكانية فعلها في التاريخ، مغالطة كبرى، على اعتبار أننا نتحدث اليوم عن ما بعد الحداثة، وعن معطيات كبرى، وعن صناعة الرغبة وصناعة الإرادة واندحار قيمة الأفراد، كما مثلته مدرسة فرانكفورت، وكما مثله كبير مدرسة فرانكفورت أدورنو في كتابه الجدل السلبي: “la dialectique négatif ” . لقد حان الوقت، بحسب طالب الفلسفة، لطرح التساؤل عن قيمة الشخص والحرية، وغيرها من الأسئلة الراهنة التي تفرض نفسها في واقعنا اليوم. مردفا قوله: “وجودنا لا يجب أن يكون شبيها بوجود حطبة الليل الذين لا يميزون ما يجمعون، وإنما هي مرحلة انتقال من عيش الوجود إلى محاولة فهمه طبعا”. وبناء عليه، يرى جواد أن الفلسفة قائمة بتجدد الشروط التاريخية والموضوعية، كما أن الفلاسفة يعيشون في شرط اجتماعي خاص، مستشهدا بمقولة ميلان كونديرا القائلة: “الذي يقيِّم المفكر كالرجل الذي يمشي في ظلام شديد الظلمة، فهو كلما تقدم ينجلي الظلام وعندما يلقي بنظره إلى الوراء يرى الناس وهم يتقدمون ويرى أخطاءهم، ولكنه لا يرى الظلام الذي انقشع”. إلى جانب جواد، قدِم، أيضا، هشام أزروق، الطالب الجامعي، ذو 22 ربيعا – إلى المعهد الفرنسي بالبيضاء، الذي يرى أن التلميذ الجامعي اليوم، أصبح يكتفي فقط، بالمحاضرات في الجامعة ولا يبحث ولا يريد أن يوسع أفقه المعرفي، ويكتفي في المقابل، بالجري وراء الدبلوم والحصول على أقرب فرصة عمل تتاح أمامه، وهو ما جعله تلميذا يلهث وراء النقط وليس وراء المعرفة. “اليوم، جئت إلى البيضاء وقبلها كنت في الرباط من أجل حضور أكبر عدد من اللقاءات المرتبطة بهذا الحدث والاحتكاك بالفلاسفة الكبار”، يقول هشام، بالإضافة إلى رغبته في توسيع معارفه ومداركه والغوص في بحر الفلسفة واكتشاف ثقافات أخرى والتنوع الحاصل على مستوى الشخصيات الحاضرة من فلاسفة مغاربة وأجانب. واعتبر الطالب أن مثل هذه اللقاءات تتيح تبادل وجهات النظر في مختلف الموضوعات والتيمات التي تشغل الإنسان، وهذا ما يساهم في تكوين الطالب وتوسيع مداركه وتُعِينه على المساهمة في التغيير الذي يحتاجه المجتمع “فطالب اليوم، هو من سيمسك بزمام الوطن يوم غد، لذا عليه أن يتكون سياسيا ومعرفيا حتى يقود سفينة الوطن إلى بر الأمان”. من جهة أخرى، رفض هشام الطريقة التي ينظر بها بعض المحسوبين على الطبقة المثقفة للفلسفة في زماننا اليوم، باعتبارها كلاما فارغا مضى وقته، وأنه جرى تجاوز وقت التنظير والتفلسف، مضيفا: “فعلا، اليوم هو يوم العمل، لكن لا يمكننا العمل دون نظريات، إذ إن الأرضية التي نشتغل عليها يضعها الفيلسوف بالأساس، وحينما نتحدث على سبيل المثال عن الحداثة في أوروبا، فالفلاسفة الكبار هم من نظّروا لها، قبل أن يأتي الدور على السياسي كي يطبق العمل ويقود التغيير، وهذه مهمته”. واعتبر الطالب الجامعي أنه بدون فلسفة لن تكون هنالك نظريات وخارطة طريق، “وهو ما يسقطنا اليوم، في فخ فشل عدد من البرامج التنموية لأنه ليس هنالك تنظير محكم وجيد”. واليوم، بحسب الطالب الجامعي، نحتاج إلى العودة إلى رحاب الفلسفة لأن العالم الحديث هو عالم المعلوميات والتقنيات، والأخيرة تمخض عنها عالم بدون إنسانية وفاقدا للإحساس. لقد “فقدنا الإنسان، واليوم أصبح لدينا إنسان هو عبارة عن آلة يشتغل وينتج، وفي صراع دائم مع ما يطرحه المعيش اليومي”، كما أن الحياة أصبحت أكثر سرعة بسبب الثورة التكنولوجية بمساوئها ومحاسنها، “لقد فقدنا أنفسنا اليوم، والفلسفة حان وقتها حتى نكتشف أنفسنا من خلالها”، يضيف هشام. يشار إلى أن ليلة الفلاسفة هي ملتقى فكري وفلسفي يشرف على تنظيمه سنويا المعهد الثقافي الفرنسي في المغرب في مدينتي الرباط والدار البيضاء، إذ يحاول من خلاله المنظمون التمرد على الطرق التقليدية التي صور بها بعض المفكرين والفلاسفة والأكاديميين مفهوم الفلسفة، انطلاقا من طرح نقاشات عبر مواضيع تُلامس حياة الإنسان عموما، وإنزال الفلسفة من برجها العاجي. النسخة الخامسة هذه السنة جرى تنظيم ليلتيها نهاية الأسبوع المنصرم في العاصمتين الإدارية والاقتصادية، وأشرف عليهما الفيلسوف الفرنسي “جون كلود مونود” والكاتب المغربي إدريس كسيكس، وشهدت حضور ثلاثين مفكرا فرنسيا ومغربيا تمحورت مواضيعهما حول تيمة أساسية هي: “العقل والشغف والعاطفة”.