«LA CHEVRE DE MONSIEUR SEGUIN».. تاهت عن البال الآن الكثير من تفاصيل هذه القصة التي جعلتني ربما أحس لأول مرة بأن القراءة ممارسة سحرية بل هي ساحرة ماهرة تأخذك بسلاسة إلى هناك.. إلى ذلك العالم الذي تتكلم فيه العنزة الفرنسية الأنيقة. نعم تاهت الكثير من تفاصيل الحكاية ولم يبق سوى اسم العنزة: «بلانكيت»، وطبعا اسم صاحبها: «مسيو سوغان» اللطيف، وصورة الذئب الشرير. ولكن دغدغة ذلك السحر ظلت موشومة هنا في الصدر، ورائحة ورق «ليفر» مازالت عالقة في ثنايا خياشيم الروح، واسمه ذو الرنة الرصينة (bien lire et comprendre) مازال عالقا في الذاكرة بغلافه «الصلب» ذي اللون الأسود المهيب. وفوق كل هذا كانت تلك اللذة التي تحتفظ بها النفس في جيبها السري كما تحتفظ بطعم القبلة الأولى على شفتي ابنة الجيران في ظلمة «الدروج».. طفا كل هذا على سطح ذاكرة الروح والجسد أول أمس بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للكتاب.. كانت تلك الذكريات طقسي الاحتفالي بهذا اليوم. إن أيام «عنزة السيد سوغان» هي «الغرزة» الأولى في تلك العلاقة الخاصة التي نسجتها الأيام بيني وبين القراءة.. علاقة عمادها دغدغة رائحة الورق النفّاذة ولذة الجلوس مع النفس في عالم غير العالم.. علاقة عمادها الصداقة، فالقراءة في نهاية المطاف «صداقة خالصة»، كما قال مارسيل بورست.. صداقة لا تروم تحقيق غاية غير متعة الصحبة. كان هذا قبل أن تتفتح عيناي على العالم وأدرك أن انتشار الكتاب والقراءة كانا في العمق تلك التعويذة السحرية التي أخرجت أوروبا ومعها الغرب (بمعناه الثقافي لا الجغرافي) من ظلمات القرون الوسطى إلى الأنوار. فالخيوط الأولى لفجر الحداثة بزغت في القرن الخامس عشر مع ظهور المطبعة التي كان لها الفضل في توسيع وعاء القراء وفي وصول كتابات الرواد (جون جاك روسو، دوني ديدرو، مونتيسكيو، جون لوك وغيرهم كثير) إلى شريحة أوسع من الناس. ولست أجانب الصواب إن قلت إن في القراءة تُحقّق أحد شروط الحداثة وهي إحساس الكائن بأنه فرد كامل في فردانيته، وليس مجرد مكون من مكونات القطيع. وكنت دوما أحس أن القراءة فعل فردي خالص أحقق من خلاله، أنا الكائن المنتمي إلى مجتمع يقدم الجماعة عن الفرد، استقلالي وتحرري من هذه الجماعة ولو إلى حين. ولعل اكتفاء المجتمع المغربي بالوقوف تحت سور الحداثة وعجزه عن استجماع قواه واقتحام بابها يعود في جانب منه إلى الضعف الرهيب المسجل في معدلات القراءة. فالمغربي للأسف لا ينفق في المعدل أكثر من درهم واحد في السنة على شراء الكتب!، ولا يتعدى عدد العناوين التي يتم نشرها سنويا في المغرب سوى 2400 عنوان بينما يصل هذا العدد إلى 60 ألف عنوان في فرنسا! كما أن المكتبات العمومية لا يتعدى عددها ال400 في كل أطراف البلاد، أي بمعدل مكتبة عمومية لكل 100 ألف مغربي. والمؤلم أكثر أن عددا كبيرا من هذه المكتبات القليلة أصلا تعيش أوضاعا بئيسة. والأمر من كل هذا هو أننا في المغرب نجد أنفسنا في هذا الوضع البئيس وقد داهمتنا التكنولوجيا الحديثة وما تحدثه من ثورة أخذت تطال حتى الكتاب الورقي، الذي يبدو أن عهده قد أخذ يتراجع لصالح الكتاب الرقمي الذي يمكن للمرء أن يحمل منه الآلاف في لوح إلكتروني يضعه في محفظته أو جيب معطفه. وهذا يطرح علينا تحديا فريدا ربما في الحضارة الإنسانية يتمثل في الانتقال مباشرة إلى مرحلة البحث عن قارئ جديد، ونحن لا نتوفر لحد الآن حتى على أرضية صلبة من القراء التقليديين، الذين يحلو لي الادعاء أنني واحد منهم، ولعل العنزة «بلانكيت»، تشفع لي وتشهد لي بأنني مثل الشاعر عبد الله زريقة أقرأ لكي «أخرج من ليل النص.. إلى صبح نفسي».