خلّف تقرير فرنسي جدلا واسعا في فرنسا وخارجها، بين محتف به بالنظر إلى التحليلات التي قدّمها للجماعات الإسلامية، خاصة في شقها الوهابي (السعودية) والإخواني (مصر)، علاوة على توصياته التي دعت إلى إعادة تنظيم جديد للإسلام في فرنسا، وبين من وصفه ب”الانتهازي” و”المتحيز”، كما جاء في بلاغ لمسجد باريس الكبير. التقرير يقع في أزيد من 600 صفحة بعنوان: “صناعة الأسلمة la fabrique de l'islamisme” أعده حكيم القروي، أستاذ مبرز في الجغرافيا وفرنسي من أصول تونسية، لصالح مركز “مونتاني” ذي التوجهات الليبرالية، ونشر الاثنين الماضي مخلّفا جدلا واسعا وسط الفرنسيين كونه يُساير الرؤية الرسمية الفرنسية الميّالة إلى اعتماد مقاربة جوهرها الضبط والتحكم في الظاهرة الإسلامية بفرنسا، وعلى بُعد أيام من انطلاق “تجمعات إقليمية” للمسلمين في فرنسا ستنظم في مختلف مقاطعات فرنسا بدعوة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من أجل تقيم توصيات للرئيس حول كيفية إعادة تنظيم الدين الإسلامي الذي يبلغ عدد معتنقيه في بلاد الأنوار أزيد من 6 ملايين شخص. وتضمن التقرير وصفا وتحليلا شاملا للظاهرة الإسلامية، بوصفها جوابا عن تحدي الحداثة الغربية في أول اتصال لها بالشرق خلال الفترة الاستعمارية، وهو التحدي الذي أنتج إيديولوجيتين رئيسيتين: الإيديولوجية الوهابية في السعودية، والإيديولوجية الإخوانية في مصر، وقد توقف التقرير عند أهم رموز ومنظري الإيديولوجيتين؛ حسن البنا وسيد قطب ويوسف القرضاوي (الإخوان) ومحمد بن عبد الوهاب وابن تيمية وناصر الدين الألباني (الوهابية). واعتبر التقرير أن بين “الوهابية” و”الإخوانية” أهداف مشتركة، وخطاب ديني جد مختلف، ووسائل متمايزة. وقدرصد التقرير تطور هذه الظاهرة الإسلامية خلال ثلاث محطات رئيسة بدءا من سنة 1979: الجهاد الأفغاني ضد التدخل السوفياتي في أفغانستان، والثورة الإسلامية في إيران، ثم التوقيع على اتفاقية “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل. في هذه الفترة يؤكد التقرير أن الظاهرة الإسلامية لم تعد تقدم نفسها كنموذج مناهض للحداثة الغربية، بل كحركة تحرر وتمكين،حيث ستظهر لها فروع متعددة في أكثر من بلد. ففي الثمانينيات، صارت “الأسلمة” بمثابة “إيديولوجية الجماهير”. وفي الغرب، بما في ذلك فرنسا، تساهم أربعة أطراف في إنتاج الحالة الإسلامية؛ الوهابية التي هي الإيديولوجية الرسمية للمؤسسة الدينية في السعودية، والإخوان المسلمون، والإسلام التركي، ثم الإسلام الإيراني، ويدرس تطورات هذه المصادر الأربعة للحالة الإسلامية في الغرب منذ ولادتها في أوطانها حتى اليوم. كما يدرس آليات انتشار هذه الإيديولوجيات من خلال رموزها، وتنظيماتها، وشبكاتها الاجتماعية والإعلامية. وعن واقع الحالة الإسلامية اليوم في الغرب، سجّل التقرير أن الإسلاميين أقلية وسط مسلمين فرنسا، لكنهم أقلية مؤثرة، بحيث أن 28 في المائة من مسلمي فرنسا يحملون تصورات وقيما تتعارض مع قيم الجمهورية الفرنسية. وهذا الوضع في نظر معد التقرير من شأنه أن يؤدي إلى نشأة مجتمع مواز للمجتمع الفرنسي، من خلال تكوين طائفة لها رموزها وقيمها ومصالحها الاقتصادية، كذلك، التي تنشأ من خلال التمييز بين الحلال والحرام في سوق اقتصادية واعدة جدا، إذ تروج حاليا نحو 6 ملايير أورو. وسجل التقرير أن الشبكات الاجتماعية تعتبر وسائل فعالة لإنتاج ونشر الأسلمة وسط مسلمي فرنسا، ويميز في نشطاء الفايسبوك الأكثر تأثيرا بين مجموعتين: مجموعة تروج للإيديولوجية الإخوانية وتركز أكثر على القضايا السياسية، في مقابل مجموعة نشطاء وهابيين ويركزون على القضايا الدينية. ويزعم أن لوسائل التواصل الاجتماعي “أثر مذهل” في نشر الإيديولوجيات الإسلامية، بحيث يحتكرها الإسلاميون في الترويج لأفكارهم ومواقفهم إن على صعيد فرنسا، كما على الصعيد العالمي. في هذا السياق، أوصى التقرير بإعادة تنظيم مسلمي فرنسا في اتجاه عزلهم عن تأثير الإيديولوجيات الإسلامية، سواء الوهابية أو الإخوانية، من خلال إقامة مؤسسة جديدة تكلف بإعادة تنظيم الديانة الإسلامية في فرنسا ومراقبة التدفقات المالية، تكون محايدة ومستقلة عن الدول الإسلامية، وهي توصية أغضبت “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية”، الذي انتقد التقرير وعبّر عن رفضه له “كاملا”. في الاتجاه نفسه، أوصى التقرير بتعليم اللغة العربية في المدارس الفرنسية، بعدما سجّل ارتفاعا في عدد التلاميذ الذين يدرسون اللغة العربية في المساجد، في مقابل تراجع عدد الذين يتعلمونها في المدارس إلى النصف. وإذا كان وزير التربية الوطنية في فرنسا قد أشاد بالتقرير، وأيد المقترح المتعلق بتعليم اللغة العربية في المدارس لعموم تلاميذ فرنسا، فإن مسجد باريس الكبير قد هاجم التقرير ووصفه في بلاغ رسمي ب”الانتهازي” و”المتحيز”. وقال إن التقرير سقط في “الخلط بين الإسلام كدين والظاهرة الإسلامية”، مؤكدا أن المسلمين بفرنسا لهم “تشبث عميق بالقيم الجمهورية والديمقراطية وبالضرورة الملحة لاحترام مبدأ اللائكية، الذي أقره قانون 19 دجنبر 1905”. كما رفض المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية بدوره التقرير، مؤكدا أنه لا يقترح أية حلول لتنظيم الحالة الإسلامية في فرنسا، بما يتماشى مع قانون فصل الدين عن الدولة.