هل يجب على القاضي أن يراعي مشاعر المجتمع أم لا؟ هذا هو الجدل الذي فجّرته الأحكام القضائية الصادرة عن غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالدارالبيضاء، الأسبوع الماضي، ضد ناصر الزفزافي ورفاقه، وأذكته تصريحات قوية لوزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، مصطفى الرميد، دعا فيها القضاء إلى مراعاة مشاعر الناس في تقدير خطورة الجريمة، وأيضا في تحديد مقدار العقوبة، لكن رئيس النيابة العامة، محمد عبد النبوي، رفض تلك التصريحات، واعتبر أن الأحكام كانت مخففة، إذ إنها لم تصل إلى الإعدام أو المؤبد. المشاعر أم القانون لم يسبق أن أثارت أحكام قضائية، خلال العقدين الماضيين، جدلا وسط المجتمع، مثلما تسببت في ذلك الأحكام القضائية الصادرة عن محكمة الاستئناف بالدارالبيضاء ضد معتقلي حراك الريف. فقد خلّفت تلك الأحكام غضبا واسعا وغير مسبوق، إلى حد تنظيم وقفات احتجاجية في عدة مدن كبرى ومتوسطة، شاركت فيها مختلف التيارات السياسية والحقوقية والمدنية الرافضة لتلك الأحكام، وإن اختلف تقديرها للموقف، بين من رأى أنها أحكام قاسية ومؤلمة، ومن رأى أنها مُسيّسة وتفتقر إلى العدالة والإنصاف، ويجب إلغاؤها وإطلاق سراح جميع المعتقلين في هذا الملف وفي ملفات أخرى مشابهة، مثل احتجاجات جرادة. وقد توالت الانتقادات في هذا السياق من قبل الهيئات الحقوقية المعروفة، فالمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، المعروفة بمواقف ليّنة تجاه السلطة، اعتبرت أنها «أحكام قاسية»، في حين سجّل منتدى كرامة لحقوق الإنسان أن الأحكام تعكس التضارب الصارخ في مواقف الجهاز التنفيذي للدولة، حيث أقر هذا الجهاز سابقا بمشروعية مطالب حراك الريف وبضرورة الاستجابة لها، ثم اختار بعد ذلك الزج بسلمية هذا الحراك في الخانة الضيقة للقانون الجنائي، توج بالأحكام القاسية التي أعلنت، وهو الموقف نفسه تقريبا الذي عبّرت عنه مختلف الهيئات الحقوقية والمدنية. السابقة الثانية خلال الفترة نفسها أنه أول مرة يصدر موقف عن وزير في الحكومة يعترض على تلك الأحكام. مصطفى الرميد، وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، أدلى بتصريحات قوية اعتبر فيها أنه إذا كان «القضاء مستقلا وينبغي احترام استقلاله»، فإن «القاضي أيضا ابن بيئته، ومن حقه، إن لم يكن من واجبه، أن يأخذ بعين الاعتبار مشاعر مجتمعه». وأضاف الرميد في تصريحات صحافية أن القاضي «يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مشاعر المجتمع، سواء في تقدير خطورة الجريمة، أو في تحديد مقدار العقوبة، فليس استحسان حكم قضائي كاستهجانه». وأشار الرميد إلى السلطة التقديرية للقاضي في هذا السياق، «ففي إطار ما للقضاء من سلطة تقديرية، فإنه يتفاعل مع محيطه، وبالتالي، فإن غرفة الجنايات الاستئنافية بالدارالبيضاء، مع تأكيد استقلال قضاتها، يمكن أن تأخذ بعين الاعتبار عموم ردود الأفعال التي جرى التعبير عنها بشأن قرار غرفة الجنايات الابتدائية في قضية الحسيمة». وخلص الرميد إلى أن «القاضي وهو يمارس استقلاله، يجب ألا يمنعه ذلك من التفاعل مع مشاعر مجتمعه سلبا وإيجابا، وهذا هو شأن القاضي الحكيم». النيابة العامة تدافع لكن، أمام هذا الغضب الجماعي، برز طرح مضاد يعتبر أن التهم التي وُجهت إلى الزفزافي ورفاقه تصل عقوبتها إلى الإعدام، وهو ما طالبت به النيابة العامة باعتباره أقصى العقوبات، لكن هيئة الحكم كان لها رأي وسط حين قضت ب20 سنة سجنا نافذا في الحد الأقصى، وسنة واحدة في الحد الأدنى. أول من خرج للدفاع عن الرأي، محامي الدولة محمد الحسني كروط، الذي اعتبر «الأحكام مخفّفة»، وذهب إلى أبعد من ذلك بقوله: «لا حق لأي كان أن يعلّق على أحكام صادرة عن قضاء مختص»، وأضاف: «ما هو المقياس للقول إنها أحكام قاسية؟ ليس هناك سند للقول بذلك. هيئة الحكم عقدت 86 جلسة، استمعت فيها إلى المتهمين، واطلعت على الخسائر، واستمعت إلى الضحايا، وإلى النيابة العامة، ثم اتخذت القرار بعد 12 ساعة من المداولات»، متسائلا: «كيف لمن لا يحضر محاكمة ولم يطلع على الملف أن يقول إن الأحكام قاسية»، وأكد أن «مقدار العقوبة من اختصاص المحكمة فقط». رئيس النيابة العامة، محمد عبد النبوي، ذهب في الاتجاه نفسه خلال مروره على القناة الأولى، بقوله: «إذا كانت عقوبة التهمة التي أدين بها شخص ما هي الإعدام، وأدانته المحكمة بعشرين عاما، ثم نقول إنه حكم قاس فهذا عبث، لأنه لم يعد للقاضي مجال أكثر لتطبيق ظروف التخفيف». وأوضح عبد النبوي أن «بعض المعتقلين توبعوا بتهم تصل عقوبتها إلى الإعدام، وأخرى تصل إلى 30 سنة، لكن المحكمة راعت ظروف التخفيف لأن القانون يقول: إذا كانت العقوبة هي الإعدام، لكن القاضي اختار تطبيق شروط التخفيف، فهو مخيّر بين أن يقضي بالمؤبد أو المحدد من 20 إلى 30 سنة». وتساءل عبد النبوي حول خلفيات المواقف الرافضة لأحكام القضاء، ملمحا إلى أنهم لا يؤمنون باستقلالية القضاء، حيث قال: «الناس أحرار في التعليق على هذه الأحكام، لكن يظل السؤال هو: هل هذه الجهات التي تعلق تؤمن باستقلال القضاء؟ إذا كانت كذلك يجب أن تدرس الحكم وتعليله قبل التعليق عليه، ومراعاة معايير ومقاييس التعليق وآلياته، وعندما نقول إن الحكم مخفف أو قاس، يجب النظر إلى الأفعال المرتكبة، وهل هي ثابتة أم لا، وفقا لما قدم من وسائل إثبات نوقشت علنيا وحضوريا أمام المحكمة، وبعد ذلك ننظر إلى العقوبة التي يحدد فيها القانون حدا أدنى وحدا أقصى». سلطة الشرطة القضائية حقوقي ومحامٍ معروف، طلب عدم ذكر اسمه، طرح القضية من منظور آخر، ف«القاضي غير مطالب بمراعاة مشاعر المجتمع، بل يجب عليه أن يراعي التطبيق العادل والسليم للقانون فقط». وأضاف المصدر، وهو أحد محاميي معتقلي حراك الريف، أنه «على القاضي وهو يحرص على التطبيق السليم للقانون، أن يدرس جيدا وسائل الإثبات التي تقدم له من مختلف الأطراف»، مؤكدا أن «فحص الإثباتات كان غائبا في محاكمة معتقلي الريف، وكذلك في الحكم الذي صدر ضد الصحافي حميد المهداوي». لقد «استغرب دفاع المتهمين عدم أخذ المحكمة، بعد انتهاء المرافعات، الوقت الكافي لدراسة كل ما راج أمامها، فأصدرت الأحكام بسرعة قياسية في قضية استمرت عاما كاملا». وردّا على تصريحات عبد النبوي بقوله إن الأحكام كانت مخفّفة، يرى المصدر أن «المشكل لا يكمن هنا، بل يكمن في عدم الأخذ بعين الاعتبار كل ما تقدم به دفاع المتهمين وشهود النفي من أدلة ووقائع تدحض التهم الموجهة إلى الزفزافي ورفاقه، واعتماد هيئة الحكم بشكل رئيس على محاضر الشرطة القضائية، رغم أنها ليست إلا بيانات في قضايا الجنايات، وعلما أن كل المتهمين صرحوا بتعرضهم للضغط والإكراه والتدليس أثناء الاستماع إليهم لإعداد تلك المحاضر». وهي المحاضر التي يؤكد دفاع المتهمين أنها «كانت تُكتب وتُغيّر مرارا بعد المشاورات التي كانت تجريها ضابطة الشرطة القضائية. كما أكد جلّ المتهمين أن المحاضر النهائية صيغت في الساعات الأخيرة قبل تقديمهم إلى النيابة العامة، وفي نسخ عديدة لم يتح للمتهمين قراءتها كلها. ويكفي الرجوع إلى محاضر الجلسات، خاصة أمام المحكمة وكذا أمام قاضي التحقيق، للتأكد من ذلك. ومن الغريب أن هيئة الحكم لم تأخذ نهائيا بما أفاد به المتهمون، سواء أمام قاضي التحقيق أو أمام المحكمة، وأخذت أساسا بما ورد في محاضر الشرطة القضائية، ولو أنها أخذت بما جرى أمام قاضي التحقيق وأمام المحكمة لبرأت المتهمين من المنسوب إليهم». تبخيس أم مشكل استقلالية الاعتراض على أحكام القضاء رأى فيه أنصار الطرح الذي تدافع عنه النيابة العامة بمثابة «تبخيس لدور القضاء». المحامي والحقوقي، نوفل البعمري، كتب مقالة في هذا الاتجاه، دعا فيها إلى «التمييز بين التعليق على الأحكام وانتقادها وإبداء عدم الرضا عنها، وبين ما يجرنا إليه البعض من تبخيس لدور الجهاز القضائي كسلطة، وتسفيه دور النيابة العامة كجهة اتهام، والتي تظل متابعتها للمتهمين خاضعة لمناقشة الدفاع، وتقييم الهيئة التي تنظر في الملف»، منبها إلى أن «ما يحدث اليوم هو نفسه الذي حدث مع مختلف الوسائط، من أحزاب ونقابات، بعدما جرى تبخيسها، حيث أصبح الجميع يسأل عنها ويطالبها بالقيام بواجبها». وأضاف البعمري أن «الأحكام القضائية ليست مقدسة، وهي خاضعة لتدرج في تقييمها ولمراقبة الجهاز الأعلى درجة من الجهاز المصدر للأحكام القضائية، سواء أكانت في المرحلة الاستئنافية أم النقض، وأيضا لتعليق الفقهاء والقانونيين»، وأضاف قائلا: «إن النيابة العامة عملها منظم ومؤطر بالدستور، ويخضع لتقييم الهيئة التي تنظر في الملف، ولمناقشة المحامين أثناء مؤازرة موكليهم، كما أن القضاء الإداري فتح المجال لتعويض المتضررين من الأخطاء القضائية. ويجب أن ننتبه إلى أنه إذا سفهنا وبخسنا دور الجهاز القضائي، فلن نجد غدا من سنختصم إليه، وسنشرعن، من حيث لا ندري، سلطة الشارع، وشرع اليد مادامت ثقة المواطنين في القضاء وفي دور النيابة العامة جرت زعزعتها بشكل سلبي خدمة لأجندة لا تخدم البناء المؤسساتي في بلادنا». لكن نجيب البقالي، برلماني ومحامٍ بهيئة الدارالبيضاء، يرى أن انتقاد الأحكام القضائية والاعتراض عليها من قبل المجتمع «له دلالات متعددة» ينبغي الانتباه إليها، لأن ملف معتقلي حراك الريف «ليس ملفا قضائيا محضا، بل هو ملف اجتماعي وسياسي بالأساس، خصوصا أن الجميع اعترف بمشروعية مطالب سكان الريف في ما يخص التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعلى رأسهم رئيس الدولة والسلطتان التنفيذية والتشريعية، كما أنه كان محط نقاش مجتمعي واسع، لاسيما المجتمع المدني والحقوقي، ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، ما يعني أن الملف أصبح ملفا مجتمعيا يهم كافة مكونات المجتمع، الذي اعترف بمشروعيتها». وأضاف البقالي: «بينما كان الجميع ينتظر انفراجا ما في هذا الملف، وإنهاءه بالاستجابة للمطالب المشروعة وإطلاق سراح المعتقلين، كما وقع في ملفات مماثلة، جاء القرار القضائي، الصادر عن غرفة الجنايات الاستئنافية بالدارالبيضاء، على خلاف تطلعات المجتمع، ما شكل صدمة نفسية لشرائح واسعة من المواطنين، بالنظر إلى حجم العقوبة المنطوق بها». أما خالد يايموت، أستاذ العلوم السياسية، فقد اعتبر أن «الرأي العام في المجتمعات المعاصرة سلطة رقابة معنوية على القضاء، ورأي المجتمعات لا يعني التدخل في القضاء، لأن القضاء سلطة مجتمعية تحد من السلط العنيفة للدولة، خاصة سلطة الأمن والجيش، فذلك هو ما يجعل من القضاء سلطة مجتمعية شبه مقدسة، وتفسر كون القاضي هو الحامي الأول للمجتمع»، وبالتالي، فإن «القاضي عليه أن يراعي قواعد الإنصاف والعدالة، ذلك أن فلسفة القانون وغاياتها الإنسانية قائمة أساسا على ارتباط المجتمعات بقيمة العدالة، والقضاء الذي لا يرتبط بقيم العدالة وفلسفة القانون يعتبر في الواقع سلطة ضد المجتمع». واعتبر يايموت أن «الرفض المجتمعي العارم لأحكام القضاء ضد معتقلي الريف أو غيرهم ناتج عن تجربة وحس اجتماعي شعبي يدرك أن القضاء بالمغرب غير مستقل، ويعاني خللا هيكليا، يمس منظومة العدالة بكاملها. وبما أننا اليوم في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه جرى التعبير عن عدم الثقة في القضاء المغربي بطرق مختلفة باستعمال هذه الوسائل الجديدة لنشر المعلومة». هكذا يظهر أن الأحكام القضائية ضد معتقلي حراك الريف وضعت القضاء أمام المحك، وكشفت أن هناك شكّا عميقا في مدى استقلاليته عن السلطة، التي يبدو أنه مازالت تتدخل بواسطة جهاز الشرطة القضائية (الأمن السياسي)، وعبر قناة النيابة العامة التي تبارك دائما محاضر الشرطة القضائية مهما كانت الانتقادات التي توجه إليها، للتأثير على قناعات قضاة الأحكام، الذين تؤكد الدراسات أنهم الحلقة الأضعف في المنظومة القضائية أمام قضاة النيابة العامة على سبيل المثال، وهو مصدر آخر للخلل.