في الوقت الذي تراجع فيه النقاش السياسي حول الديمقراطية والتوزيع العادل للثروة، يبدو أن الفاعلين في المجتمع يتجهون نحو الاستقطاب على أساس إيديولوجي؛ فردّا على عريضة إلغاء التعصيب في الإرث التي وقع عليها مثقفون من تيارات مختلفة بمن فيهم ذوو الخلفية الإسلامية، أطلق آخرون عريضة مضادة تدعو إلى "المحافظة على نظام الإرث الإسلامي كما شرعه الله تعالى". ويعوّل أصحاب العريضتين معا على جمع أكبر عدد من التوقيعات على موقع "أفاز" الدولي، وهكذا استطاعت العريضة التي تطالب بإلغاء التعصيب في نسختها الفرنسية جمع 5 آلاف توقيع، إضافة إلى 1630 توقيعا بالنسبة إلى النسخة العربية. أما العريضة الثانية، التي ظهرت بعد العريضة الأولى وتدعو إلى المحافظة على نظام الإرث كما بيّنه القرآن، فقد جمعت لحد الآن حوالي 2000 توقيع دون أن يعلن أصحابها عن أنفسهم. في هذا السياق، استطاعت الخطوة أن تثير الجدل من جديد بين رموز من أنصار العريضتين. أحمد الريسوني، فقيه مقاصدي وقيادي في حركة التوحيد والإصلاح، كتب على موقعه الإلكتروني منتقدا دعاة إلغاء التعصيب في الإرث، وقال إن "الفرائض لا تلغى أو تُغيّر بالعرائض". وعبّر الريسوني، الذي لم يوقع على العريضتين، لكنه أيد تلك التي تنادي إلى المحافظة على نظام الإرث، عن رفضه إقحام القضايا التي تتطلب رأي المختصين والخبراء في منطق العرائض الشعبية، مؤكدا أن "كل المسائل التي تحتاج عادة إلى العلم والعلماء، وتحتاج إلى المختصين والخبراء، وتحتاج إلى البحث العملي والاجتهاد الموضوعي، يكون من العبث والانحطاط والغوغائية إقحامها في منطق العرائض الشعبية والشعارات التحزُّبية والضغوط "النضالية". ودعا الريسوني أنصار المحافظة على الإرث إلى عدم الانجرار نحو منطق العرائض حتى لو جمعوا مليون توقيع، لأن ذلك قد "يُؤوَّل على أن المليون موقِّع على العريضة هم فقط، المتفقون معها والمطالبون بالتمسك بأحكام الشريعة"، بينما الحقيقة "هي أن الشعب كله، سوى بعض الخوارج الجدد، يقف في صف الشريعة، ويؤمن بالقرآن والسنة وبكل ما فيهما". وأكد الريسوني على من وصفهم ب"العقلاء والراشدين، بدَلَ مسايرة الأساليب الغوغائية والردِّ عليها بمثلها، أن يَجُرُّوا أصحابها إلى ميادين العلم والمعرفة والفكر والبحث والحجة والبرهان. فهذا الذي يفحمهم ويلجمهم". في الاتجاه نفسه، ردّ مصطفى بنحمزة، رئيس المجلس العلمي بوجدة، بمقالة مطولة على دعاة المساواة في الإرث، واعتبر أن "الدعوة إلى التصرف في أحكام الإرث وإلى تغييرها هي بكل وضوح، وبعيدا عن كل التواء وتمحل وتعسف في تطويع النصوص، هي دعوة مصادمة لنصوص صريحة من القرآن، شدد الله فيها على وجوب الالتزام بأحكام الإرث وعدم تعديها، وهي نصوص لها أثرها البالغ في نفوس من يؤمنون بالقرآن موجها لسلوكهم ومن هم راضون بأحكامه". ووصف بنحمزة التظاهر بالتعاطف مع المرأة، على حساب أحكام الشريعة، "إيغال في الانتهازية"، لأنه "تعاطف يزايد على الشريعة الإسلامية، ويبرز من الرفق والحنو على المرأة أكثر مما يرفق بها ربها، ولأنه يسوِّق لها وهما لا يتحقق أبدا إلا في مخيلة من لا يدركون بكل تفصيل كيف تتم التسوية ضمن شبكة الإرث الواسعة والمتشابكة؟". ودعا بنحمزة في تدوينة على "الفايسبوك" تفاعلا مع عريضة 100 توقيع إلى "إبعاد إرث المرأة عن التوظيفات الإيديولوجية والسياسية التي تتمدد في مساحة جهل الناس بأحكام الشريعة". واستفزت ردود الريسوني وبنحمزة الموقعين على العريضة المطالبة بإلغاء التعصيب، فكتب امحمد جبرون، أستاذ التعليم العالي بطنجة وأحد الموقعين على عريضة 100، متأسفا ومنتقدا أنه "مؤسف جدا أن نقرأ ونطالع كلاما لعلماء وفضلاء يرمون فيه شخصيات معتبرة من الوطنيين الشرفاء تختلف معهم في الرأي حول الموقف من مسألة الإرث عموما والتعصيب، خصوصا بتهم الجهل بالشريعة والتآمر على الإسلام والخيانة و"الخوارج الجدد"، في إشارة إلى موقف الريسوني. واعتبر جبرون أنه "بغض النظر عن الصواب في المسألة، فإن الاجتهاد في الشريعة وبخاصة في باب المعاملات مما درج عليه المسلمون منذ القدم، وهو علامة صحة وعافية، وأمثلة الاجتهاد مع وجود النص كثيرة ومتعددة من زمان الخليفة عمر (رضي الله عنه) إلى يومنا هذا. ويبدو من هذه الناحية أننا ازددنا تخلفا عن السلف. كما أن الاجتهاد في قضايا الإصلاح والتحديث منذ القرن 19م، لم يعد مسألة خاصة بعلماء الشريعة بالمعنى الضيق، بل يحتاج إلى فقهاء السوسيولوجيا والتاريخ والاقتصاد والقانون، بالإضافة إلى علماء الفقه والأصول". من جهته، قال محمد رفيقي (أبو حفص)، باحث في الدراسات الإسلامية وأحد المطالبين بإلغاء التعصيب، ل"اليوم24″ إن "ردود الفعل المتشنجة" على المطالبة بإلغاء التعصيب "كشفت أن هناك خلطا ينبغي توضيحه"، وأكد أبو حفص أن المقصود ليس كل حالات التعصيب، بل "في الحالة التي يقع فيها على المرأة ظلم بيّن لا يمكن الاستمرار في قبوله، ولا التبرير له باجتهادات قديمة تغيرت كل السياقات المحيطة بها تغيرا جذريا وكبيرا". وفي هذا الصدد أعطى أبو حفص المثال التالي: وهو "حين يموت الميت، تاركا خلفه بنتا أو عددا من البنات دون وجود ذكر معهن، فيأتي أي قريب من جهة الأب دون الأم ولو كان بعيدا كعم أو ابن عم أو ابن ابن عم، فيقاسم البنت أو البنات تركة والدهن، مع أنه لم تكن له أي رابطة بهن سوى تلك القرابة النسبية، لم ينفق عليهن يوما ولا تحمل من أجلهن درهما، ولا شارك في تكوين تلك الثروة ولا حضر جمعها"، ويكون له حق في الإرث بعد ذلك، فقط لأن الميت ترك وراءه البنات لا غير. وعبّر أبو حفص عن استغرابه من "ردود الفعل المتشنجة" على الدعوة إلى إلغاء التعصيب في الحالة التي يقع ظلم على المرأة، مؤكدا أن هناك "تدليسا كبيرا يمارسه المعارضون حين يحاولون دغدغة عواطف الناس وعقائدهم"، مع العلم أن "هذا النظام ليس له من سند في القرآن".