منذ الأسبوع الأول الذي تبع إعلان نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، ل7 أكتوبر 2016، يراد للحزب الذي أسسه صهر الحسن الثاني عقب انتخابات جرت نهاية السبعنيات، وجمع فيه كل الكائنات الانتخابية التقليدية ممن ترشحوا كمستقلين؛ أن يحتل صدارة المشهد السياسي بالمغرب. هو حزب ولد وعاش في كنف السلطة، وسبق لهذه الأخيرة أن وضعته على رأس تحالف من ثمانية أحزاب بهدف تخويله صدارة الاستحقاقات التشريعية التي تلت ثورات الربيع العربي، لكنّه فشل في ذلك ليعود الرهان في المحطة الانتخابية الأخيرة على أخ غير شقيق لحزب التجمع الوطني للأحرار، هو حزب الأصالة والمعاصرة. هذا الأخير فشل بدوره رغم كل ما حفّته به مراكز السلطة والنفوذ والمال من رعاية ودعاية وضغط. عزيز أخنوش، وزير المخطط الأخضر في الفلاحة والمخطط الأزرق في السياسة، انبعث فجأة في الأسبوع الموالي لفوز رئيس الحكومة السابق عبد الاله بنكيران بتصويت يمنحه وفق المنطق الديمقراطي الحق في ولاية ثانية. الملياردير المتربع على عرش الثروة في المغرب، تحوّل منذ ذلك الحين إلى مبعوث فوق العادة، "فوّضه" حزب الأحرار رئاسته، ومكّنته أربعة أحزاب سياسية من رقابها لإنهاء فترة البلوكاج الشهيرة ضد بنكيران بإسقاط هذا الأخير، وهو (أخنوش) منذ ذلك الحين، البشير الذي يطوف البلدان والأقاليم. المعطى الأكيد في هذه الحكاية، هو أن محاولة إقلاع الحمامة من جديد في سماء السياسة المغربية، جاءت بعدما انتهت آلة جبارة من الفتك بجلّ الأحزاب السياسية المغربية، قديمها وجديدها. حزب العدالة والتنمية اختار ارتداء قيود ذاتية تعيق حركته العادية، وحليفه الوحيد، حزب التقدم والاشتراكية، اضطر إلى القبول بعزل أمينه العام من منصبه الحكومي وارتداء قميص التهمة من خلال تحميله مسؤولية الفشل في قطاعات مثل الصحة والتشغيل؛ وحزب الاستقلال لم يتمكن بعد من الخروج من غيبوبة الإبعاد القسري لأمينه العام السابق حميد شباط، وباقي الأحزاب تفرّقت بين منقاد لأخنوش وخاسر لقدراته الانتخابية أمام العمالقة المدعومين. التجمع يصول ويجول "لا شك أن الوضع الحالي يشير إلى أن هناك تراجع في موقع الأحزاب التقليدية المتمثلة في أحزاب الحركة الوطنية. وكما الطبيعة تكره الفراغ فالسياسة أيضا تتعارض معه، وسنشهد بكل تأكيد صراعا على التموقع داخل الخريطة السياسية خلال السنوات المقبلة، بين الأحزاب السياسية التي لازلت تفرض نفسها سواء من الناحية التنظيمية أو من الناحية التعبوية"، يقول الباحث الجامعي عبد الاله السطي، مضيفا أن حزب التجمع الوطني للأحرار، "صاغ مؤخرا وثيقة تشخيصية للواقع الاقتصادي والاجتماعي، ويقدم بدائل يرى من منظره الخاص أنها الكفيلة للخروج من واقع الفشل الذي يعتري بعض القطاعات الحكومية، ونرى كيف يصول ويجول داخل مجموعة من المدن من أجل التعبئة والترافع للإقناع بجدوى أطروحته، حزب العدالة والتنمية يشتغل بنفس المنطق بدأ أيضا قافلته السنوية بشعار الديمقراطية أساس العدالة الاجتماعية، وهي كلها في اعتقادي مبادرات تدخل في مجال التنافس الحزبي". من جانبه يرى باحث آخر هو عبد المنعم لزعر، أن الحقل الحزبي وإن كان قد اندمج حاليا في سيرورة "تشتغل على المستوى الضمني والصريح من بنية الحقل الحزبي فإن هذه الديناميات مازالت رهينة مبدأ وقاعدة الفعل ورد الفعل، لكن المفارقة التي تلاحظ على هذا المستوى هي أن الفعل غالبا ما يكون محدود الأثر وان كانت رهاناته كبيرة في حين يكون لرد الفعل أثر أقوى ووزن أثقل لكن برهانات ضعيفة". وفي الوقت الذي كانت أنظار الديمقراطيين تتطلّع إلى تلك اللحظة التي تصطف فيها الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية إلى جانب الحزب المجسد للإرادة الشعبية حاليا، أي حزب العدالة والتنمية، لاحظ المراقبون كيف تم تكبيل الأحزاب الوطنية العريقة، وإطلاق حزب التجمع الوطني للأحرار ليتولى إعادة هيكلة المشهد الحزبي. الديمقراطية الاجتماعية ! عبد الاله السطي، قال إن الرؤية السياسية التي يبسطها عزيز أخنوش لمستقبل حزب التجمع الوطني للأحرار، تقوم على وازعين، "الأول هو ممارسة السياسة بدون هوية سياسية، وهو ما يطمح له الرجل من خلال التبشير بإيجاد حلول جذرية للسياسات العمومية المتعلقة أساسا بقطاع الصحة والتعليم والشأن الاقتصادي. كما أنه في نفس الوقت خطاب نقدي من داخل الحكومة لقطاعات لا يشرف عليها حزب التجمع الوطني للأحرار، وهو ما يخفي أطماع الحزب لقيادة هذه القطاعات خصوصا أنه يروج لوصفات جاهزة من أجل إيجاد حلول نهائية لهذه القطاعات كما يروج له الحزب". أما الوازع الثاني الذي يحرّك أخنوش حسب السطي، فيتمثل في تقديم نفسه كبديل سياسي، سيتم المراهنة عليه لقيادة المشهد السياسي مستقبلا، "وهذا في اعتقادي خطاب ينم عن استراتيجية سياسية بدأ ينهجها الحزب منذ اعتلاء عزيز أخنوش لأمانته العامة، وذلك أولا من أجل إرباك مواقف ومواقع باقي الفرقاء السياسيين، وثانيا من أجل الحشد والتعبئة لاستقطاب أكبر عدد من الأعيان ومحترفي الانتخابات، الذين سيشكلون القوة الانتخابية الضاربة للحزب مستقبلا". أخنوش كشف متم شهر فبراير الماضي بمناسبة حفل اختتام جولاته الجهوية الذي نظم بأكادير، عن تبني حزبه للمرجعية السياسية التي يفترض أن يكون حزب الاتحاد الاشتراكي رائدا فيها، والتي سبق لحزب الأصالة والمعاصرة قد أعلنها في مؤتمره الوطني للعام 2012، وهي المرجعية الديمقراطية الاجتماعية. أخنوش قال إن النقاش الذي عرفه الحزب في العام الماضي، وبالنظر إلى صعوبة التمييز بين اليمين واليسار، اختار موقع الوسط. أخنوش تحدّث بلغة البديل والمنقذ، وقدّم برامج وتوقعات تصل إلى العام 2025، أي نهاية الولاية الحكومية المقبلة التي يفترض أن تنطلق عام 2021. المبعوث الجديد لتأطي الحقل الحزبي، كشف عن سعيه لتكرار تجربة تأسيس حزب التجمع الوطني للأحرار عام 1978. هذا الحزب أسسه حينها صهر الملك الراحل الحسن الثاني، أحمد عصمان، وضمّ إليه الأعيان والنواب الذين ترشحوا لانتخابات 1977 كمستقلين، ليصبح صاحب الأغلبية داخل البرلمان المغربي. "ضروري من العودة إلى الأصل"، يقول أخنوش، مضيفا هدف التفاعل مع توجيهات الملك، "الذي دعا كل القوى الحية في البلاد للمساهمة في النقاش حول النموذج التنموي الذي لم يعد قادرا على الاستجابة للمطالب". تسلّم المشعل بعد ذلك، قام رئيس حزي التجمع الوطني للأحرار، بخرجة تلفزيونية هي الأولى من نوعها لهذا الرجل، كشف من خلالها جلّ أوراقه السياسية. أخنوش تحدّث مساء الأحد 4 مارس عبر برنامج "حديث الصحافة" الذي تبثه القناة الثانية، عن الوصفة الكاملة لجعل حكومة سعد الدين العثماني فترة بيضاء، من خلال وضع أجندة حزبه في القطاعات الاجتماعية التي لا يتحمّل حزبه مسؤوليتها، ولعب ورقة حمل "النموذج الجديد الذي دعا إليه الملك" في الطريق نحو انتخابات تشريعية يسعى إلى تصدّر نتائجها. وزير الفلاحة منذ أكثر من عشر سنوات، اعتبر برنامج حكومة سعد الدين العثماني في حكم المتجاوز، مبررا ذلك بكون الخطاب الملكي في افتتاح السنة التشريعية الحالية الذي دعا إلى وضع نموذج تنموي جديد، قد جاء بعد المصادقة على البرنامج الحكومي. أخنوش كشف الخلفية التي تفسّر إقدام حزبه على فتح باب الترشيحات للانتخابات، موضحا أن الخطوة تحضّر للانتخابات المحلية للعام 2021. استراتيجية التركيز على الجماعات الترابية أولا، تذكّر من جديد بالأسلوب الذي اعتمده حزب الأصالة والعاصرة بعد تأسيسه عام 2008، حيث اتجه فورا نحو اكتساح الانتخابات المحلية، قبل أن يعود حزب العدالة والتنمية ليسحب منه البساط في استحقاقات 2015 الأخيرة. أخنوش قال إن تغطية جميع دوائر الانتخابات المحلية تتطلّب أكثر من 30 ألف مرشح، معلنا هدف استقطاب 10 آلاف مرشّح في كل سنة، ليكون حزبه جاهزا في العام 2021. أخنوش وبعد قيامه بخرجة إعلامية ثانية عبر مجموعة "الأحداث المغربية"، بات يحمل رسميا المشروع السياسي الذي جرى تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة لإنجازه قبل أكثر من عشر سنوات، لكنه يخضع هذا المشروع لتعديلات تميّزه عما خرج الوزير المنتدب في الداخلية، فؤاد عالي الهمة، عام 2007 ليبشّر به، وما حاول خليفته على رأس الحزب، إلياس العماري، إنجازه في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة. مهمة كشف أخنوش في خرجتيه الإعلاميتين الأخيرتين، إدخال تعديلات على استراتيجية تنفيذها، من خلال العمل على احتواء حزب المصباح من الداخل، أي من داخل الحكومة وعبر استمالة تيار معين داخله، وتجنّب الدخول في تقاطب ايديولوجي مع مرجعية العدالة والتنمية الإسلامية. الباحث محمد مصباح، قال ل"أخبار اليوم" إنه و"بعد فشل حزب الأصالة والمعاصرة في مهمته الأصلية، أي إضعاف البيجيدي، ارتفعت أسهم السيد عزيز اخنوش لدى الدولة لا سيما بعد تشكيل حكومة العثماني، لأنه الوحيد الذي استطاع تلجيم طموحات البيجيدي ونجح في إضعافه من الداخل". مصباح أوضح أن "الجديد في توجه أخنوش، هو تواري الصراع الإيديولوجي مع الإسلاميين مقابل بروز خطاب الفعالية والانجاز، وهي على كل حال ميزة للأحزاب التقنوقراطية والإدارية. لقد أدركت الدولة ونخبها أن الصراع الايديولوجي مع الاسلاميين لم يكن مجديا وكان يأتي أحيانا بنتائج عكسية". محمد مصباح شدّد من جانبه على أن هناك اهتمام كبير من طرف أخنوش، "ببناء الآلة الحزبية والتنظيم الداخلي لحزب التجمع الوطني للأحرار. فقد عمل في الأشهر الأخيرة على إعادة هيكلة واسعة لمكاتبه الجهوية، وتم خلق مؤسسات موازية وهذا طبعا يؤكد رغبته في بناء ماكينة حزبية تمكنه من التنافس القوي في الانتخابات المقبلة ويؤشر أيضا على تغيير الإدارة للحزب الذي تراهن عليه لهزم العدالة والتنمية من حزب الأصالة والمعاصرة إلى حزب الأحرار". حاضن للاتحاد أخنوش اعترف أيضا بكونه وضع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تحت وصايته، وقال إنه "إذا كنت أنا حاضنا للاتحاد الاشتراكي أو غيره، فهم أيضا حاضنون للأحزاب التي كانت معهم". الباحث في العلوم السياسية عبد المنعم لزعر، قال إن المأزق الذي تعيشه الأحزاب التي تنتمي إلى الحركة الوطنية يتمثل في كونها انتقلت من استراتيجية الفعل إلى استراتيجية رد الفعل، "فعلى هذا المستوى، الفعل يصنع السياسية أما رد الفعل فيصنع الدراما. من هنا يمكن القول بان هذه الأحزاب وفق التحولات التي يعرفها الحقل السياسي والحزبي تحول إلى لحظة من الدراما، تلك الدراما التي تتميز بتوتر على مستوى بنية العقل والوعي السياسيين، هذا التوتر هو ما يجعل قرارات هذه الأحزاب منزوعة التأثير ورهاناتها مجردة من كل قوة". وفي الوقت الذي يعتبر فيه حزب الاتحاد الدستوري شقيقا أصغر لحزب التجمع الوطني للأحرار، وجاء دخوله إلى الحكومة بفعل اندماج فريقه البرلماني ضمن فريق الحمامة، وبينما تعتبر الحركة الشعبية أداة طيّعة لدعم القرارات الفوقية و"صبغ" الوزراء التكنوقراط؛ جاءت خرجة أخنوش الأخيرة لتؤكد استمرار حزب الاتحاد الاشتراكي تحت وصاية حزب الأحرار. معطيات تؤكد أن "رباعي البلوكاج" الذي أفلح في انتزاع رئاسة مجلس النواب قبل تشكيل الأغلبية الحكومية، قد تحوّل إلى نواة صلبة لأي استنساخ لتجربة G8 التي قادها حزب الحمامة في 2011.