لعل أكثر ما يلفت الانتباه في فيلم "بورن آوت" (احتراق) للمخرج نور الدين لخماري، الذي يتبارى على جوائز المهرجان الوطني للفيلم الذي يختتم ليلة اليوم السبت بطنجة، هي حالات الاحتراق التي تعيشها شخصياته كل على حدة، في مختلف طبقات المجتمع المغربي، ومن هنا جاء عنوان "احتراق" أو "بورن أوت"، حسب تعبير المخرج في حوار مع "أخبار اليوم". وهو احتراق تحت تأثير اليومي القاسي، دون بحث عما يكسر هذه القسوة.. قسوة الواقع التي تدخل البعض في سيرورة الاستكانة والمهادنة، والتعود على الخضوع له. ومن نماذج هذا الاحتراق الروحي الذي تعيشه شخوص الفيلم، طالبة الطب، التي جسدتها الممثلة البرتغالية المغربية سارة بيرليس، بانخراطها مجبرة في عالم الدعارة، وأيضا الطفلان، ماسحا الأحذية، اللذان جسد دوريهما، أشهر طفل محترف في المغرب إلياس الجيهاني، والوجه الجديد «بدر»، الذي أدهش من شاهده في دور «موس»، دون كسر وخرق عادة هذا الواقع، ثم شخصية الشاب الثري، أنس الباز، الذي يستسلم منذ بداية الفيلم لحالة الإحباط التي جعلته يقرر تطليق زوجته التي شخصتها مرجانة العلوي. حالة الاحتراق هذه تخمد شيئا فشيئا، حين يكبر الحب في نفوس عدد من شخصيات الفيلم. وفي هذا يقول لخماري: "أردت القول إن الحل الوحيد لنكون أكبر هو الحب.. لنخرج من كل الاحتراقات التي نعيشها، في مجتمعنا المغربي، ونتغلب على مآسيه سبيلنا الوحيد هو الحب، فمن يحب يصدق في علاقاته الخاصة والمهنية والمجتمعية عامة". في هذا الفيلم، الذي ختم به لخماري "ثلاثية الدارالبيضاء"، كانت المدينة عنصرا رئيسا، فهي أحد الشخوص الأساسية، على حد تعبير لخماري للجريدة. "في هذا الفيلم أظهرت الدارالبيضاء بنور أكبر، فقد صورتها أكثر إضاءة، من فيلم "كازانيكرا" و"الزيرو"، وذلك كان مقصودا، لتنتقل البيضاء من سوداويتها التامة، إلى شيء من الانفراج. انفراج كان خلفه كثير من الحب. حب تحمله شخصيات فيلم "بورن أوت"، بخلاف الفيلمين السابقين في الثلاثية كان الحب نادرا ونادرا جدا، فكانت الدارالبيضاء أكثر قتامة، في الظاهر والباطن"، يقول المخرج للجريدة. وتعليقا على الانتقادات التي وجهها كثير من النقاد المغاربة إلى فيلم "بورن أوت"، قال المخرج نور الدين لخماري "إن مشكلة بعض النقاد أنهم يرسمون أفلاما في أدمغتهم، ويريدون من المخرج أن يفكر ويشتغل على مقاسها، ولا ينظرون إلى الفيلم في حقيقته كما خرج. وهذا شيء غير منطقي"، ويضيف: "هؤلاء يحملون فكرة قديمة عن سينما المؤلف، السينما الفرنسية في السبعينات، ولا يحينون معارفهم تبعا للتطور الذي يعرفه العالم في هذا المجال ومجالات أخرى". ويرد لخماري على القائلين إن فيلمه الجديد فارغ من حيث المعنى وقصصه تائهة، فيقول: "في هذا الفيلم هناك رسائل أقوى مما سبق وقدمته في "كازا نيكرا" و"الزيرو"، على المنتقدين فقط الخروج من نسق الأحكام المسبقة ليروها". وحول مشاهد الاغتصاب التي يقدمها فيلمه الجديد "بورن أوت"، قال لخماري، في حوار مع "أخبار اليوم"، إنها أحداث واقعية استقاها من ألسنة عدد من الطالبات، المقيمات بالعاصمة الاقتصادية، وبينهن طالبات الطب اللواتي غاص في عوالمهن وجالسهن أثناء تحضيره الفيلم، وأشار إلى "إن ما حكيته في الفيلم وضمنه حكاية طالبة الطب، وشخصتها سارة بيرليس، ومظاهر الاستغلال الجنسي والنفسي، وقسوة الأحداث الدرامية التي عاشتها لا تمثل سوى 10 في المائة مما حكته لي الطالبات عن الاغتصاب النفسي والجسدي، الذي دخلنه طوعا وكرها في الوقت نفسه". وردا على سؤال الجريدة حول حالة الاستسلام الجسدي في مشهد الاغتصاب الجنسي، الذي جسده كل من الممثل المقتدر إدريس الروخ والممثلة سارة بيرليس، في أول دور بطولي لها، قال المخرج لخماري: "إن هذا المشهد تحديدا صورته كما وصفته لي إحدى الطالبات، وهي تتحدث عن أول خروج لها إلى طريق الدعارة في سبيل أن تدفع مصاريف الكراء ومصاريف دراستها الطب"، مشيرا إلى أن كثيرا من الفتيات اللواتي يعشن تجارب مماثلة، هن طالبات قادمات من مدن ومناطق صغيرة وفقيرة، تدفعهن قسوة العيش إلى سلك طريق غير طريق العلم الذي جئن من أجله إلى الدارالبيضاء، يقول ابن مدينة آسفي المقيم بالنرويج منذ سنوات في حوار طويل مع "أخبار اليوم" ننشره لاحقا. حوار يؤكد فيه أن "وضع الاغتصاب شيء يعيشه مجتمعا يوميا، فكثير من النساء يغتصبن يوميا بالطرق نفسها، حتى وإن كان ذلك على فراش الزوجية، ولا يملكن القدرة على البوح والثورة على هذا الألم لأسباب اجتماعية". الفيلم يتضمن حكايات مختلفة يلتقي أبطالها في مجموعة من الصعوبات، تجبرهم على تقديم تضحيات، خاصة أن الفروق الاجتماعية والاقتصادية تزيد من مآسيهم. من خلال الشريط يتابع المشاهد مجموعة من الشخصيات، على رأسها الطفل أيوب البالغ من العمر 13، والذي يشتغل ماسح أحذية، وهمه الأول توفير المال لشراء رجل اصطناعية لوالدته مبتورة الساق، التي جسدت دورها بتميز كبير الممثلة السعدية لديب، التي تعيش قصة حب فريدة مع أحد سكان الكاريان الذي تقطنه، والذي يجسد دوره محمد الخياري، الذي قدم دورا مختلفا عن أدواره في أعمال سابقة. ثم رجل الأعمال الشاب جاد (وأدى دوره الفنان أنس الباز)، همه الوحيد، بعد الاستسلام، هو التخلص من شبح والده المتوفى، وزوجته غيتة، البالغة من العمر 28 سنة، والتي لا تشعر بالسعادة معه، وتؤدي دورها الممثلة مرجانة العلوي. وهناك أيضا رجل السياسة الثري، البالغ من العمر 55 سنة، ويلعب دوره المبدع إدريس الروخ، والذي فقد ابنه في حادثة سير، ويحاول البحث عن الحنان بين أحضان عاملة جنس، حديثة العهد، وهي عايدة، البالغة من العمر 25 سنة، طالبة الطب في سنتها الرابعة، وتعيش حياة مزدوجة. وتنضاف إلى هذه القصص قصة حياة وسيطة الدعارة الشابة، التي تعيش في مستوى أرستقراطي من وراء ما تجنيه من عملها، وتؤدي الدور بتميز أيضا الممثلة المبدعة فاطمة الزهراء الجوهري.