جاء الربيع الشيعي متأخرا ست سنوات عن الربيع السني، لكنه جاء، وحصيلته الأولية ثقيلة.. في ثلاثة أيام سقط 22 قتيلا واعتقل المئات، وتعرضت مبانٍ وسيارات وأبناك للتخريب، لكن أقوى ضرر هو الذي حدث لصورة إيران، البلد الذي يقوده رجال الدين المعممون، الذين يسيطرون على الأوضاع في الداخل، ويتمددون في الإقليم، ويتحدون أكبر قوة عسكرية في العالم. دونالد ترامب مسرور في البيت الأبيض، يغرد دعما للشعب الإيراني الذي وضعه قبل سنة على لائحة الإرهاب، ومنع جميع المواطنين الإيرانيين من دخول أمريكا، حتى الذين يتوفرون على تأشيرات، وهو نفسه ترامب الذي هدد بتمزيق الاتفاق الإيراني الأمريكي القاضي برفع الحظر عن طهران، وهو ما أثر على حركة الاستثمارات الخارجية في البلاد… ترامب ليست لديه دروس يعطيها للإيرانيين، ومثله السعودية والإمارات ومصر، التي وقفت في وجه الربيع العربي، والآن تهلل للربيع الفارسي، وتنتظر منه أن يسقط النظام في أسبوع. هذه «ليست ثورة ولا حركة سياسية، بل هي انفجار لأصناف من الإحباط بسبب الركود السياسي والاقتصادي الذي يعانيه الشعب الإيراني»، هذا ما قاله الخبير في مجموعة الأزمات الدولية، لي فايزي، وهو ما التقطته افتتاحية "الغارديان" البريطانية، التي كتبت: «إنه من المبكر جدا الخروج بحكم حول مآل هذه الاحتجاجات، كما فعل البعض ممن رأوا في هذه الأحداث دليلا على أن التغيير الذي يريدون رؤيته في النظام وشيك. إن النظر إلى هذه الاحتجاجات من زاوية متمنيات واشنطن لن يسعفنا في استيعاب دوافع المحتجين، أو مستويات الدعم التي تحظى بها مطالبهم المختلفة على أرض الواقع». يشبه الربيع الفارسي الربيع العربي من عدة أوجه: احتجاجات عفوية بلا قيادة، شعارات تندد بالفساد وتدعو إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، الشباب والنساء عمود الحركة الاحتجاجية، لجوء السلطات إلى القمع وقطع الأنترنت، وترويج نظرية المؤامرة، الاعتراف للشعب بحق التظاهر، لكن ليس هنا والآن، أي أن النظام يعترف لمواطنيه بحق الاحتجاج، لكنه يطلب منهم ألا يستعملوه، وإذا استعملوه، فسيطلق عليهم الرصاص. إيران بلد كبير، وموارده متعددة، وخلفه حضارة من آلاف السنين، ونظامه مركب ومعقد، تتعايش فيه مؤسسات الدولة وتنظيمات الثورة، رجال الدين ورجال الدنيا. إنه نظام حكم فيه مزيج من الممارسات الديمقراطية والممارسات السلطوية. نظام فيه تعددية سياسية دون أحزاب، وانتخابات دون تداول على السلطة، وصحافة دون استقلالية، وبرلمان يشتغل تحت وصاية الولي الفقيه… لكن في إيران مجتمعا حيا ونشيطا جدا في الجامعات وحلقات الفكر ودور السينما، ودوائر المثقفين، علمانيين ومتدينين، ومع هذا حركة للترجمة نشيطة جدا، وتجمعات للتجار (البازار) مسيسة إلى حد كبير، وحركة «فيمنيست» متجذرة في الأرض الإيرانية المعتزة بقوميتها الفارسية أكثر من انتمائها الديني، والمتطلعة إلى لعب دور في الداخل والخارج. الإصلاحيون والمحافظون معا متخوفون من تظاهرات مدينة مشهد، ثاني أكبر المدن الإيرانية، وهم ليسوا متخوفين على مستقبل النظام، فهذا الأخير مازال قويا، وفي يده عدة أوراق سيلعبها للحد من آثار الغضب في الشارع. الإصلاحيون والمحافظون متخوفون من توظيف هذه الاحتجاجات من قبل طرف ضد طرف، فالرئيس حسن روحاني سيحاول استثمار غضب الشتاء هذا لصالحه، للإسراع في برنامج إصلاحاته المتوقف عند باب المرشد، والمحافظون يسعون إلى توظيف هذه الاحتجاجات لإضعاف الإصلاحي روحاني، وإظهاره في صورة الرئيس الضعيف الذي لا يسيطر على الوضع، ويجب إزاحته، لكن، في كل الأحوال، ما جرى في الأيام الأخيرة سيترك بصماته على صاحب القرار الإيراني، الذي لم تشفع له كل انتصاراته في الخارج، وممانعاته إزاء أمريكا من أداء ضريبة الفقر والهشاشة والفساد، وإهدار ثروات كبيرة على حروب قاسم سليماني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، دون أن يقتنع المواطن الإيراني في الداخل بجدوى هذه الحروب، ولا بفائدتها على حياته اليومية، في بلد يمتلك موارد هائلة رغم الحصار المضروب عليه منذ عقود. إننا لا نعيش زمن الثورات الكبرى، ولا زمن المشاريع المجتمعية التي تغير مجرى التاريخ في العالم، كما حدث مع الثورة الفرنسية أو الأمريكية أو الروسية أو حتى الإيرانية قبل 38 سنة، لكننا نعيش زمن الاحتجاجات والانتفاضات الصغيرة التي تطرد النوم من عيون الحكام، وترفض التطبيع مع الأمر الواقع، أو الخضوع للسلطة تحت تأثير الخوف.