نواصل الاستماع إلى الاقتصادي العالمي، محمد يونس، وهو يشرح نظرية الأصفار الثلاثة (صفر فقر، صفر بطالة، صفر تلوث)، من خلال كتابه الجديد: «نحو اقتصاد بثلاثة أصفار». اليوم نعرض بعض أفكاره وتجاربه حول مقاومة البطالة، وخلق فرص الشغل حيث لا يتوقع الكثيرون إمكانية خلقها. محمد يونس لم يكبر في وسط فقير، ولم يعانِ في طفولته الحرمان، ولد لعائلة مسلمة كانت مرتاحة ماديا، لكن أمه علمته الاهتمام بالفقراء، من خلال سلوكها اليومي، حيث كانت توزع الطعام يوميا على المحتاجين، فكبر في هذا الجو من الإحساس بالضعيف، ونما التعاطف داخله إلى أن صار فكرا وعلما وتجارب حصل بموجبها على جائزة نوبل للسلام وليس للاقتصاد، لأن تجاربه لمحاربة الفقر والتهميش والبطالة تعتبر عملا من أعمال إحلال السلام فوق الأرض. يبدأ محمد يونس، في كتابه حول البطالة، من وضع يده على التشخيص الخاطئ لآفة البطالة فيقول: «البطالة ليست مشكلة العاطلين عن العمل، بل هي مشكلة النظام الاقتصادي الذي يعيشون وسطه، والبطالة ليست قدرا، بل هي نتيجة لاختيارات خاطئة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا. البطالة تبدأ في العقول قبل أن تنتشر في الواقع، حيث يكبر التلميذ والطالب على فكرة أنه سيدرس جيدا، ويحصل على نقط جيدة للحصول على وظيفة ممتازة ومدرة للدخل في القطاع العام أو الخاص، في حين لا يقول أحد لهذا التلميذ إن الوظيفة الوحيدة المضمونة والمدرة للدخل هي التي يخلقها الإنسان بنفسه، ولماذا لا تفكر في أن تكون مشغلا عوض أن تكون أجيرا.. «باطرون» عوض أن تكون موظفا: créateurs d'emploi au lieu d'être des demandeurs d'emploi. أما الفكرة الأكثر تدميرا لفرص الحصول على شغل لائق، كما يراها يونس، فهي تلك التي تعشش في رؤوس الكثيرين، والتي تقول إن هناك من يستحق الحصول على الشغل، وهناك من لا يستحقه، وإن هناك من يخلق القيمة المضافة، وهناك من لا يمكن أن يخلقها بسبب إعاقته التعليمية أو الجسدية أو النفسية، وهذا أكبر خطأ. يقول محمد يونس: «كل البشر مؤهلون للعمل، وكلهم يتوفرون على طاقة داخلية تمكنهم من الاشتغال، فلا يوجد شخص غير قابل للعمل، أو فارغ البطارية مثل هاتف انقطع عنه الشحن، أما الفكرة الأكثر مدعاة للخراب الاجتماعي فهي الاعتقاد بأن الشغل تخلقه يد السوق الخفية وقانون العرض والطلب». يجزم يونس بالقول: «لا توجد يد خفية تزرع التوازن في السوق، وإذا وجدت فإنها تخدم الأثرياء لا الفقراء، وأصحاب النفوذ والريع لا المحرومين والمهمشين. إن الوصفة التي تقول بالحفاظ على نسبة معينة من النمو، وزيادة الاستثمار العمومي في البنيات التحتية، وتقديم الدعم لبعض الفقراء، وتشجيع الدولة الراعية، هذه كلها وصفات لعلاج جزئي لا تصل إلى جذور مشكلة البطالة… لا حرية لشخص محتجز من قبل الفقر والجوع والبطالة. وظيفة العالم أن يحل مشاكل سكانه لا أن يتسامح مع وجود أشخاص عاطلين ومعطلين عن الإنتاج. إنه النموذج الرأسمالي مرة أخرى الذي يسعى إلى الربح والربح وحده، ويراكم الثروات في أيدي الأقلية، ولا يساعد على إزالة العوائق من أمام الفقراء والعاطلين حتى يندمجوا في وسطهم، ويجدوا فرصهم. هنا يكمن واجب السياسة. على الدولة أن تتدخل لإزالة الحواجز من أمام الضعفاء.. حواجز مادية أو نفسية أو تعليمية، حتى ينطلقوا ويتحرروا. هذه وظيفة السياسة الاجتماعية وليس قانون السوق. هذا واجب الإنسان وليس الرأسمال». عماذا نتحدث اليوم بالأرقام؟ نتحدث عن بطالة تمس في إسبانيا واليونان وإيطاليا 40% من الشباب، حسب إحصائيات 2016 الآتية من منظمة الشغل العالمية، إذا كان هذا يقع في أوروبا، فماذا يجري في إفريقيا والعالم العربي وأمريكا اللاتينية وغيرها من الدول النامية، حيث البطالة ليست مشكلة عابرة، بل هيكلية ودائمة أحيانا، حتى إن نسبة كبيرة من الشباب يدفعها اليأس إلى التوقف حتى عن البحث عن العمل، فتخرج نهائيا من سوق الشغل (8% في المغرب من العاطلين لم يعودوا يبحثون عن العمل، والبطالة في صفوف الشباب المتعلم فوق 30%). ولكي يعطي أمثلة حية عن دور الاقتصاد الاجتماعي في خلق مناصب شغل غير تقليدية، يقدم محمد يونس تجربته في بنغلاديش، حيث كان سباقا إلى تأسيس بنك للفقراء، يمنح القروض الصغرى للمحتاجين. بدأت الفكرة سنة 1976 في قرية جبرة jobra البنغلاديشية: «من اليوم الأول وضعنا شرطا أمام الفقراء لاستقبالهم في مؤسسة البنك الصغير: النظافة لأنها نمط عيش، وفرضنا على القرويين ألا يقصدوا البنك حتى يغتسلوا ويتحلوا بمظهر لائق، ليس على طريقة رجال البزنس في نيويورك، ولكن بالشكل الصحي الذي يفيدهم (النظافة الجسدية عنوان نقاء الحياة الداخلية)، ثم عمدنا إلى تسهيل عملية فتح الحساب للفقراء بدون تعقيد ولا وثائق ولا شكليات، ثم عمدنا إلى ربط الحصول على قرض بإدخال المستفيدين أطفالهم إلى المدرسة، أو إلى دورات تكوينية تنظم في الهواء الطلق على مبادئ القراءة والكتابة والحساب والوعي الصحي والبيئي، وربطنا حصول الفقراء على تمويلات لمشاريعهم المستقبلية بتقدم أولادهم في التعليم وعدم الانقطاع عن الدراسة، وأنشأنا نظاما لتتبع تعليم أبناء الفقراء، واستدراك ما فاتهم حتى يلتحقوا بالإعدادات والثانويات، وينخرطوا في مسار الحصول على مهن كانت حكرا على الأغنياء، مثل الطب والهندسة، ولكي نخرج الأبناء الذين درسوا إلى مستوى متقدم من فخ البحث عن العمل إلى فرصة خلق العمل، منحناهم هم أيضا قروضا لإنشاء مشاريعهم في القرية وخارجها. ترددوا في البداية تحت ضغط عائلاتهم، لأنهم لم يسددوا بعد قروض دراستهم، فكيف يأخذون قروضا أخرى لإنشاء مقاولات جديدة؟ تغلبنا على هذا العائق النفسي بتنظيم مسابقة وطنية للمشاريع والأفكار التي يقترحها الشباب، واستدعينا كبار المستثمرين ومديري الشركات، وتركناهم وجها لوجه مع هؤلاء الشباب الذين نجح الكثيرون منهم في الحصول على شريك لمشروعهم أو مورد أو زبون. سنة بعد أخرى ظهر جيل جديد بثقافة جديدة وبنماذج جديدة… كل هذا بسلفات صغرى لا تتعدى أحيانا 50 دولارا دون فوائد أو بفوائد قليلة. كان هدفنا ليس فقط دعم الفقراء، بل إخراج أبنائهم من ثقافة الفقر ووضعهم على السكة».