بعد أن يتلقى المدعوون اتصالات مباشرة وتأكيدا للحضور، يكون الوافدون على مقر جماعة العدل والإحسان بمدينة سلا على موعد مع استقبال خاص. بمجرّد اقترابهم من المقر من أحد الدروب المؤدية إليه، يجدون أعضاء الجماعة في انتظارهم. يتعرفون على الضيف، يوجّهونه نحو وجهته المناسبة، إما لإيجاد مكان مناسب للسيارة، أو لولوج المقرّ. يفتح الباب بعد وصول الضيف إليه، ويغلق مباشرة بعد فتحه. ما إن ينهي عضو الجماعة مهمته التي أسندت إليه بدقة، حتى يسلم الضيف إلى عضو آخر. بعد المرشدين خارج البناية، هناك مستقبل في البوابة الصغيرة، يتأكد من الهوية بنظرة سريعة أو استفسار، قبل أن يمرره إلى المكلّف بالفئة التي ينتمي إليها الضيف. الصحافيون في مكتب تسليم ملفات الصحافة وشارات الحضور، والضيوف «الكبار» نحو قاعة الضيوف في الطابق العلوي ل«الفيلا» الصغيرة. وباقي الحضور نحو القاعة. في الطريق المؤدي إليها في الطابق تحت الأرضي، تجد في كل منعطف من يستقبلك ويوجّهك. في الانعطافة ما قبل الأخيرة، مكلّف بتسليم قنينة ماء لكل ضيف. قنينة أزيلت عنها ملصقات الماركة والرمز التجاريان. لا مجال لأي إشهار مجاني في ضيافة جماعة عبد السلام ياسين. المواعيد هنا تضبط على عقارب ساعة سويسرية، ما برمج في العاشرة يتم في العاشرة، وما برمج في ساعة أذان الظهر يتم مع أذان الظهر، أي استراحة لأداء الصلاة، بالنسبة إلى من يصلون، وارتشاف الشاي وتناول بعض المأكولات الخفيفة لمن لا يصلون. صباح السبت الماضي كان موعد افتتاح الحفل السنوي بمناسبة ذكرى رحيل شيخ ومؤسس الجماعة عبد السلام ياسين. من أراد البحث عن تفسير لتلك الدقة والتنظيم المحكم الذي تتميّز به الجماعة في المسيرات الشعبية، كما كان الحال قبل أسبوع في مسيرة الاحتجاج على قرار ترامب حول القدس، عليه أن يحضر مثل هذا اللقاء. لا شيء هنا يترك للصدفة. حتى داخل القاعة «الكبرى» للبناية، وهي عبارة عن صالون مغربي متوسط الحجم، تجد من كلّفوا فقط باستقبال الضيف عند الباب، وتوجيهه نحو المقعد الذي خصص له بالتحديد. هناك من كلّف باستقبال الرجال من الضيوف، ومن تتولى استقبال النساء. لكل من الجنسين مكان خاص للجلوس، باستثناء الصحافيين، هؤلاء يؤذن لهم بالاختلاط. لماذا فشل الربيع العربي؟ إذا كان الأمر بهذا الحرص والعناية في الجانب الشكلي، فلا يمكن أن يكون مضمون ندوات اليومين التأبينيين لعبد السلام ياسين مجرّد صدفة. الربيع العربي كان الضيف الخاص هذا العام. لماذا فشلت ثورات 2011؟ وما هي الوصفة الملائمة لإنجاح ثورات الشعوب ضد الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة العربية وعموم «الأمة» الإسلامية؟ سؤالان مركزيان هيمنا على أشغال اليوم الأول من إحياء الجماعة ذكرى رحيل شيخها. «نجتمع اليوم معاشر الفضليات والأفاضل لنُحيي الذكرى الخامسةَ لرحيل الأستاذ المرشد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، وأمتنا تعيش مستجدات استثنائية في ظل تطاول الاستبداد المحلي، المسنود من الاستكبار العالمي»، يقول عمر أمكاسو، عضو مجلس الإرشاد، ومسؤول مكتب الإعلام لجماعة العدل والإحسان، مفتتحا يومي الاحتفاء، فيما كان عنوان الندوة: «التحول السياسي بين محاولات الإجهاض وفرص التجاوز»، والمبرر يرتبط بالضرورة بفكر وإرث عبد السلام ياسين. «قد كان الإمام المرشد، صاحب هذه الذكرى رحمه الله، متهمما غاية التهمم بهذا التغيير، ومتيقنا كامل اليقين من تحققه، وواعيا بالتحديات الداخلية والخارجية التي تحول دون ذلك»، يضيف أمكاسو. الحريف: التشرذم هو السبب أول الضيوف المتدخلين لم يكن سوى الكاتب الوطني السابق لحزب النهج الديمقراطي، عبد الله الحريف، الذي قدّم بيانا ثوريا ناريا أنسى الحاضرين برد الطقس الذي أجريت فيه الندوة. الحريف قدّم وصفه الخاص للاستبداد الذي يعتبر أنه يسود المغرب، مجسدا إياه في مؤسسات عصرية منتخبة تقوم بدور الواجهة، وأخرى معيّنة تحكم قبضتها على السلطات الحقيقية. فالمؤسسات العصرية والمنتخبة، في رأي الحريف، مثل البرلمان والجماعات المحلية، «لا تتمتع بسلطات فعلية، دورها هو توفير واجهة "ديمقراطية" مزيفة للتمويه على الاستبداد المخزني والحكم الفردي المطلق للملك». أما المؤسسات غير المنتخبة وغير الخاضعة للمحاسبة الشعبية، فيجسدها الحريف في كل من الملك، «أمير المؤمنين ورمز وحدة البلاد، ومستشاريه، ووزارة الداخلية وأجهزتها "الأمنية الأخطبوطية" والجيش... وهي تتمتع بصلاحيات وسلطات حقيقية وواسعة». أما سوسيولوجيا، فيتسم الاستبداد، حسب عبد الله الحريف، بوجود طبقة من «ملاكي الأراضي الكبار والبرجوازية الكبرى وكيلة الإمبريالية، وكذا من الفئات العليا من الطبقات الوسطى»، يشكلون قاعدته الاجتماعية. ويضيف المعتقل السياسي السابق أن الاستبداد يعتمد على «بنية النظام الملكي المخزني من أجل إحكام قبضته، واستمرار وتوسيع مصالحه، وهي بنية رجعية متخلفة»، مضيفا أن النظام المغربي يتسم باستغلال الدين «لتبرير وتعزيز شرعيته، ويعتبر المحكومين مجرد رعايا وليسوا مواطنين»، وأن المخزن يشكل الأداة الأساسية في هذا النظام، متجسدا في «كبار المسؤولين الأمنيين والعسكريين والقضائيين والإداريين والدينيين، وأغلب المسؤولين السياسيين، وعدد من رجال الأعمال والإعلام، وكبار مقاولي "المجتمع المدني" الرسمي، وبعض كبار المسؤولين النقابيين وغيرهم». أما سبب استمرار هذا الاستبداد، حسب رأي الحريف، فيعود إلى «تشرذم» القوى المعارضة له، وضعف تجذرها في الأوساط الاجتماعية المستعدة لمناهضته، إضافة إلى «الأوهام التي تنشرها، عن حسن نية أو بوعي تام، القوى التي تراهن للقضاء على الاستبداد على العمل في مؤسساته "الديمقراطية" المزعومة». أنوزلا: الإسلاميون حملوا أسباب فشلهم الصحافي المغربي، علي أنوزلا، قدّم، من جانبه، قراءة حول أسباب فشل ثورات الربيع العربي، والسبيل إلى إنجاح المحاولات اللاحقة. «أغلب الثورات العربية كانت عفوية، تماما كما وقع في الصين في نهاية الثمانينات، حيث تم سحق تلك الثورة في مهدها، فيما هناك ثورة استمرت في الزمن، وقدمت التضحية والنموذج فنجحت، وهي ثورة جنوب إفريقيا التي أعطت نموذجا ديمقراطيا نموذجيا»، يقول علي أنوزلا، مضيفا أن «هناك من سيتهمنا بالتسرع في الحكم على الربيع العربي، لكن لا يمكن أن نتوهم أن التغيير يمكن أن يتحقق في عام أو عامين أو عقد أو عقدين»، ليخلص أنوزلا إلى أن فشل الربيع هو سر نجاح الثورات المضادة، «فتشتت وتنازع قوى التغيير، هو نفسه عامل قوة الطرف الآخر». أنوزلا شدّد على أن الطابع العفوي لثورات الربيع العربي شكّل أول عناصر ضعفها، موضحا أن هناك فرقا بين نوعين من الأنظمة العربية، أي تلك التي تعتمد واجهة ديمقراطية، وتلك التي تعتبر مهيمنة بشكل مطلق. «ففي النموذج الأول، أي دول مثل تونس ومصر واليمن والجزائر وبعض الأنظمة الملكية، فاحتمال التحول نحو نظام ديمقراطي أعلى بكثير، فيما يكون الاحتمال في النوع الثاني، أي دول مثل سوريا وليبيا والعراق في عهد صدام، ضعيفا للغاية، وحتى إذا حدث التحول، فسيقود إلى نموذج من اللااستقرار أو العودة إلى الحكم الاستبدادي». الصحافي ومدير موقع «لكم2» الإلكتروني، قال إن الثورات العربية اصطدمت بهياكل مستبدة تعود إلى الأنظمة السابقة، لا تريد التحول نحو الديمقراطية، كما حصل في تجارب أخرى في أوروبا الشرقية. «هذه الهياكل لعبت دورا تدميريا عبر المساعدة في خلق منظمات عسكرية غير حكومية لعرقلة الانتقال، ودخلت كل هذه البلدان إلى مرحلة من الفوضى العسكرية». وأضاف أنوزلا أنه بفضل ثورات العربي العربي، ظهرت قوى سياسية إسلامية لعبت أدوارا مهمة، «وهو ما يطرح اليوم سؤال تقييم تجاربها، وإسهامها، سواء في الثورة أو الحكم. ويبقى ما يجمع بينها هو الفشل الذي كان مآلها كقدر محتوم، ولا يمكن الحسم بأن هذا الفشل فرض عليها، لأنه سيسقط مسؤولية الإسلام السياسي في تحمل فشله في تدبير الحكم». سؤال مسؤولية الإسلاميين في فشل الربيع العربي، أجاب عنه أنوزلا بالقول إن هذه الحركات حملت معها أسباب فشلها عند انتقالها إلى الحكم، «من قبيل انعدام ثقافة الديمقراطية عند بعض هذا التيار، وغرور البعض بقوته المفترضة في الشارع، وضعف كفاءة أطره وقلة تجاربه في التدبير أو انعدامها، وانتهازية ونفاق بعض فصائله، وانسياقها وراء شعارات قواعده شبه الأمية…». والحل لتجاوز هذا الوضع، حسب أنوزلا، هو حدوث توافق بين القوى الإسلامية وتلك العلمانية، لدخول مرحلة ما بعد إسلامية، وذلك عبر «قلب المبادئ الكامنة وراء الحركات الإسلامية التقليدية رأسا على عقب، عبر تأكيد الحقوق بدل الواجبات، والتعددية بدل الصوت الواحد، والمستقبل بدل الماضي». وخلص أنوزلا إلى أن القوى الديمقراطية مطالبة بالاستعداد لمرحلة ما بعد المعركة الدائرة حاليا، و«بعد أن تسكت المدافع وتهدأ الشوارع، يجب أن تبدأ القوى المعنية بالتغيير باستعادة أنفاسها، ووضع برامج طويلة المدى، تتوزع بين مهام وبرامج، ويقترن ذلك بالواقعية وتجنب الأخطاء التي وقعت فيها، وأول ما يجب القيام به هو الابتعاد عن العنف بكل أشكاله، واعتماد النضال السلمي، وتجنب المغامرة بشعارات غير قابلة للتحقيق وخلق أوهام حولها». جرعود: وصفة الثورة الناجحة مسؤولة القطاع النسائي لجماعة العدل والإحسان، آمال جرعود، قدّمت وصفة كاملة لتحقيق الثورة انطلاقا من تشكيل تحالف سياسي عابر للإيديولوجيات، ووصولها إلى الهبة الشعبية. جرعود بدأت مداخلتها بوضع فرضيتين لتحقيق الانتقال الديمقراطي؛ واحدة بشكل إرادي من جانب النظام السياسي، وثانية عبر إكراهه على ذلك. ودون أن تطيل في شرح الفرضية الأولى، سارعت آمال جرعود إلى استبعادها. «هذا المسار غالبا ما يكون نوعا من أنواع الالتفاف والتنفيس من أجل الخروج من بعض المآزق والأزمات، فيضطر إلى أن يغير قبل أن يجبر على التغيير». وتضيف القيادية في الجماعة أن هذا المسار غالبا يرمي إلى «إعادة ترتيب الأوراق، والتقاط الأنفاس، واستجماع القوى من أجل العودة أكثر شراسة وسلطوية واستبدادية». أما الاحتمال الثاني، والمتمثل في فرض التغيير الديمقراطي من أسفل، فوضعت له آمال جرعود وصفة متكاملة، تبدأ بإقامة تحالف سياسي واسع، يتولى القيام بثلاثة أوراش أساسية، هي التعبئة والتحالف والممانعة. «التعبئة مدخلها بناء الوعي بما فعله الاستبداد ومخلفاته، وميزات التحول المنشود، وبأن للتغيير ثمنا. فالرهان على تغيير الأنظمة فقط هو رهان قاصر، بل يجب الرهان على تغيير المجتمع، ونقله من واقع السلبية إلى الإيجابية»، تقول جرعود، مضيفة أن ورش الممانعة يتمثل في مبادرات ميدانية، «لأن ما يعطي الأفكار فعاليتها هو التصاقها بالواقع، وما يعطي المصداقية هو الدفاع عن هموم المواطن. هذا ورش تدريبي نختبر فيه قدرتنا على العمل المشترك، ومشتل لتخريج قيادات سياسية يكون لها تأثير في الشارع وقدرة على تعبئته». بعد استكمال هذه العناصر الضرورية لتحضير الإطار المناسب لإنجاح التحوّل نحو الديمقراطية، تصل مسؤولة القطاع النسائي للجماعة إلى نقطة التحول، والمتمثلة في الهبات الشعبية. «حين يصل الغضب إلى مداه، وتغيب كل منافذ الأمل في تغيير منشود، تأخذ الشعوب المبادرة، وتخلف وراءها كل عقد الخوف والضعف، وتعمل إلى صناعة مستقبلها بيدها. لكن قدرة الشعوب على اجتراح عملية التغيير، وتقديم ما لا يمكن تخيله من التضحيات، ومهما بلغت من رقي ونضج، لا يجعلها في مأمن من الانفلات، ولا يمنحها القدرة على إدارة الوضع، وهنا تبرز أهمية الفاعل السياسي للتأطير والتوعية والتعبئة».