لا تزال أفلام التحقيقات الصحفية والقاعات المغلقة لرؤساء التحرير تجد لها مراتب متقدمة ومشاهدات محترمة وإيرادات عالية، انطلاقا من فيلم "كل رجال الرئيس" (All the president's men) أو"حالة من اللعب" (state of play) وسلسلة "غرفة الأخبار" (The Newsroom)، وغيرها من الأفلام الأميركية العالمية. لكن التساؤل المطروح هو: هل يمكن اعتبار هذه الأفلام بمثابة دورات تكوينية وحصص علمية تساعد الصحفي في الارتقاء بالمستوى المهني والمعرفي والتطبيقي، أم أن تدخل عدسات الأستوديوهات والتلاعب بالزوايا والنصوص يفقد واقعية العمل الصحفي والتحقيق المهني؟ فيلم "الكاشف" (Spotlight) (1) يحلل تلك المقاربة ويذهب بنا بعيدا للكشف عن ماهية جنس التحقيق الاستطلاعي، والعلاقة القائمة بين ثنائية الصحافة-السينما. فريق الكاشف أربعة صحفيين محترفين قابعين في أسفل مقر جريدة بوسطن غلوب، يفجرون فضيحة أخلاقية لرجال الكنيسة الكاثوليكية، في تحقيق شبيه بعمل المخابرات البوليسية السرية (2). والفيلم حائز على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم يبسط للمشاهد أحداث تحقيق صحفي مثير ينطلق من مقال رأي في جريدة مغمورة إلى فضيحة أخلاقية وسياسية تتعلق بالاغتصاب والتحرش الجنسي بأطفال الكنيسة الكاثوليكية. صدر الفيلم في سبتمبر/أيلول 2015 بمهرجان فينيس للأفلام بإيطاليا، وحقق إيرادات وصلت إلى 84 مليون دولار بميزانية قدرت بنحو 20 مليون دولار، كما أنه يتوفر على تنقيط جيد جدا ب8.1 على موقع "آي.أم.دي.بي" (IMDb) (3). أخرج الفيلم "طوم ماكيري" وكتبه "جون سينغر"، وشارك في التمثيل "مارك رفايلو" الذي رشح لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل مساعد، و"مايكل كيتون" بطل فيلم "الرجل الطائر" (The birdman)، و"راشيل ماكدمس" التي شاركت في دور مماثل بفيلم "حالة من اللعب" (state of play) ورشحت في نفس الفيلم عن جائزة أفضل ممثلة مساعدة، بالإضافة إلى الممثل المشهور "ليف شليبر". الفيلم الذي رشح لست جوائز أوسكار والمقتبس من قصة حقيقية وأسماء شخصيات واقعية، هو عبارة عن ورشة تكوينية حقيقية للصحافة الاستقصائية، جَسَدُه سيناريو أصلي نال جائزة الأوسكار كأفضل سيناريو حقيقي، وقد حاول المخرج تقديمه بكل احترافية ومسؤولية إلى درجة أن الصحفيين الحقيقيين الذين زاروا مكان تصوير مكاتبهم القديمة فوجئوا بمدى مطابقة مكاتب أستوديو التصوير لمكاتبهم الحقيقية. وقال الصحفي والتر روبنسون عن شخصيته التي جسدها الممثل مايكل كيتون إنه "من الممتع مشاهدة نفسك في المرآة، لكن دون قدرتك على التحكم في صورتك المنعكسة".. وهذا ما يعكس مطابقة الشخصيات التمثيلية للشخصيات الحقيقية التي مزجت بشكل احترافي ثنائية السينما-الصحافة. ساعتان وتسع دقائق هي المدة الزمنية لزيارة افتراضية وتدريب غير مباشر داخل أعرق الجرائد العالمية؛ جريدة "بوسطن غلوب" التي تأسست منذ 146 عاما والحائزة على 23 جائزة "بوليتزر". بعيدا عن السرد القصصي لأحداث الفيلم التي جرت وقائعها عام 2001 بجريدة بوسطن غلوب الأميركية، يمكن استنباط أساسيات جنس التحقيق في الصحافة المكتوبة من خلال أحداث الفيلم، ويمكن تلخيص هذه الأساسيات في أربعة عناصر: أولا- التحقيقات الصحفية لا تنجز بين عشية وضحاها من الإشكاليات الحقيقية التي نعيشها اليوم هو إلصاق صفة "التحقيق" لأي حدث توفر فيه جانب من السرية بوثائق أو تصريحات خاصة، ومن الطريف أن تقرأ محور "تحقيق اليوم" في أحد الجرائد العربية، أي أنهم ينجزون تحقيقا في كل يوم! طوم ماكيري أفرد مشهدا وحوارا خاصا، وهو حوار التعارف الذي سيجري بين رئيس التحرير الجديد مارتي بارون ورئيس فريق تحقيق "سبوت لايت" بارتي روبنسون في أحد المقاهي، حيث سيكشف بشكل غير مباشر أهمية الوقت الكافي لإنجاز التحقيقات. يقول بارون: كم يستغرق من الوقت لإنجازكم التحقيق؟ يجيب بارتي: يصعب القول، ربما بضعة أشهر. يستغرب بارون: أشهر؟.. بارتي: أجل إننا لا نحب العجلة في الأمور، فبمجرد أن نستقر على المشروع، نقضي عاما أو أكثر للتحري عنه. ثانيا- لا تهمل أي خبر صغير مهما كان يقال إن الصحفيين يكتبون بالقلم الأزرق، ورؤساءهم يستخدمون القلم الأسود، والمحررين يستخدمون القلم الأحمر. في أول اجتماع لهيئة تحرير جريدة "بوسطن غلوب" مع رئيسهم الجديد، أدلى جميع الصحفيين باقتراحاتهم وأفكارهم، ثم جاء دور الرئيس ليفتح النقاش حول مقال رأي مكتوب في إحدى الجرائد المغمورة غير المشهورة. أبدى الجميع استغرابه لهذا المقترح، واعتبره أحد رؤساء الأقسام مجرد مقال رأي لا يحتاج إلى أي متابعة، خاصة أنهم سبق أن كتبوا في نفس الموضوع، لكن تحرش كاهن بأطفال في ست أبرشيات مختلفة خلال ثلاثين عاما شكّل العقدة التي تحتاج إلى الحل، خاصة أن المحامي أكَّد أن لديه وثائق تثبت معرفة رئيس الكنيسة بهذا الموضوع. في نهاية النقاش يتم الحسم بتكليف فريق "سبوت لايت" بالبحث عن هذا الموضوع. ومن الأمور التي ستكشف عنها أحداث الفيلم المتسارعة؛ اكتشافهم أنه تمت مراسلة المؤسسة بالوثائق والمعلومات قبل سنين، لكن أحدا لم يهتم بها ورميت في سلة المهملات. ثالثا- السرية التامة كانت السرية من أهم العناصر التي حاول المخرج التركيز عليها وترسيخها في ذهن المُشاهد من خلال عدة مشاهد، ففي إحدى اللقطات يدخل عضو فريق التحقيق "مايك ريزنديس" بشكل مفاجئ على رئيسه، وقبل أي حديث أشار "بارتي" إليه بإغلاق الباب، وهي لفتة غير مباشرة لإبقاء الموضوع سرا بالرغم من أنهم يتكلمون داخل المؤسسة، وفي مكان يُفترض أن يكون آمنا. واختار فريق "سبوت لايت" مكانا غير متاح لأي أحد للتلصص أو استراق السمع، حيث أصر المخرج بشكل واضح في بداية الفيلم على تتبع الصحفيين ساشا ومات وهما يسيران بين الأروقة وينزلان الدرج إلى مكان عمل الفريق، الذي لا يضم أي مكتب سواه. وحينما يتم تكليف قسم الأرشيف بجمع قصاصات أرشيفية، وتقوم بالعملية إحدى المستخدمات، تتوجه المستخدمة بالسؤال إلى الصحفي "مات كارول": هل تحققون في قصة عن الكنيسة يا رفاق؟ فيجيب مات منكرا: لا لن نقوم بقصة عن الكنيسة. أما على مستوى المنافسة الخارجية، فكان هناك حرص على عدم إظهار أي إشارات أو تحركات تظهر موضوع اشتغالهم، خاصة أمام منافسهم الأول، جريدة التايمز. رابعا- لا تجعل من تحقيقك خبرا تمحوه الأيام، بل اجعله تحقيقا يسجله التاريخ من أهم مشاهد الفيلم وأكثرها قوة هي اللحظة التي استوفى فيها الفريق أهم دلائله على عمليات التحرش والاغتصاب التي طالت أطفال الأبرشيات والكنائس في بوسطن، وينتقل التحقيق الذي انطلق بداية بكاهن تحرش واغتصب العديد من الأطفال طيلة ثلاثين سنة، إلى التحقيق في 13 كاهنا متهمين بالتحرش والاغتصاب، ثم يستمر التحقيق والبحث ليصلوا إلى قناعة بأن العدد يفوق هذا الرقم بكثير، وهو ما يتعدى أكثر من ثمانين راهبا. في هذه النقطة الحرجة والفاصلة في التحقيق، يتفق الفريق على عدم النشر لأن مآل القصة أن تحدث ضجة في مدة معينة ثم تختفي، وعليه فلن يكون للتحقيق أي عقاب أو جزاء لهؤلاء الكهنة. التحقيق يأخذ أبعادا أخرى ويذهب في اتجاه إماطة اللثام عن نظام الكنيسة الذي يجيز ويبيح هذه الاغتصابات. بعد نشر التحقيق الأول نشر الفريق 600 قصة عن فضيحة اغتصاب الأطفال والتحرش الجنسي، وعليه وجهت التهمة ل249 كاهنا علنا بتهمة التحرش الجنسي داخل أبرشية بوسطن، بينما كشف التحقيق لاحقا عن أكثر من 100 أبرشية وقعت فيها حالات اغتصاب، وحالات مشابهة في أكثر من ثلاثين دولة حول العالم. 128 دقيقة من أحداث الفيلم تكشف المستور وتطرح السؤال المحرج حول واقع صحافة التحقيق في العالم العربي، كما تدفعنا للنظر بتمعن إلى مراحل إنجاز هذا التحقيق الاستقصائي، والتكامل الحاصل بين احترافية هيئة التحرير وإصرار فريق "سبوت لايت"، وكذلك جرأة الهيئة الناشرة بالسماح لإنجازه، ثم مقارنة ظروف الاشتغال التي توفرها المؤسسات المهنية لطاقمها الصحفي والدعم المعنوي والمادي. عن مركز الجزيرة الإعلامي للتدريب والتطوير