منذ غابر القرون، والمغرب كان، ولا يزال أرض التسامح الديني بامتياز، تساكنت فيه الأديان بشكل قل نظيره في أرض المعمور، ولم يعرف المغاربة في تاريخهم عدوان مسجد على كنيسة أو بيعة، لهدمها أو تخريبها ونسفها وتقتيل أهلها، ولم يسمعوا عن فظائع الاقتتال الديني إلا في ما يتناهى إلى أسماعهم من روايات خارج حدودهم، وحتى عندما علا نجم الكنيسة ، زمن الاحتلال الفرنسي للمغرب، استمرت هيبة المساجد وقدسيتها، وروعيت حرمة البٍيَع. بل إن المغرب، وبموقف صلب من الملك محمد الخامس، انتصب سدا منيعا في وجه طوفان العنصرية الدينية، وعداء اليهود، الذي أغرق أوروبا، وفرنسا منها، زمن النازية الألمانية، وحكومة فيشي الفرنسية، فتحطمت موجة اضطهاد اليهود القادمة من أوروبا على صخرة أسوار المغرب ، القوية بالقيم الراسخة، والتقاليد الثابتة. وعلى امتداد تاريخ المغرب، ظل إيواء المضطهدين دينيا، وتأمين الفارين خوفا من جحيم ومقاصل الحقد الديني والمذهبي، تقاليد متوارثة عبر الأجيال، وأفسحت هذه التقاليد الكريمة بشهامة المغاربة ، وخصالهم الشماء، للاجئي الاضطهاد الديني ، مسلمين ويهودا ، مواقع الصدارة في شأن البلاد ، والتمتع بخيراتها، ومراتب التبوء بقيادة المجتمع حتى، والنفوذ في هياكله وشرائحه. ولقد صنع المغاربة بتقاليد الاحتفاء والاستقبال والتسامح تاريخ المغرب الوضاء، فبفضلها أشرقت شمس الإسلام على البلاد، وبفضلها تأسست في المغرب دولته الخالدة الصامدة عبر القرون، حينما التفت قبائل المغرب الأمازيغية حول المولى إدريس الأول، القادم من الشرق، وأكرمت نسبه النبوي الشريف، وجعلت من بيته بيت الملك والدولة. وبنفس فضائل ثقافة الاحتفاء والاستقبال ونجدة المستجير، فتح المغرب أبوابه وأكنافه للناجين من محاكم التفتيش بعد سقوط الأندلس، من أسر عريقة من المسلمين واليهود. وباحتفائه بالأسر الناجية من المسلمين واليهود، ضمن انتقال وإنقاذ إحدى المشاعل الوهاجة للحضارة الإنسانية، بعد أن أخمدت أوارها بالأندلس ، عنجهية العنصرية الدينية الصليبية . وباحتضان المغاربة للعبقرية اليهودية والأندلسية، وتفاعل المسلمين واليهود في العطاءات والتجارب والخبرات، شُيِّد على أرض المغرب صرح فريد للحضارة الإنسانية في التسامح الديني، واحترام حقوق الإنسان في حرية الشعائر والعقائد والأديان. وقبل عصر الأنوار، تفرد المغرب، واستبق زمن النضج الإنساني، فأنتج بتسامحه الديني إحدى أبهى تجليات التعاون الحضاري الإنساني، بإفراز واقع المواطنة والتعايش. وفي المنعطف الحضاري الذي يعيشه عالم اليوم، وبسبب شيوع التعقيدات والتوترات في العلاقات الدولية والصراعات بين الأمم، وبالخصوص الصراع العربي الإسرائيلي في فلسطين و الشرق الأوسط، وقع نوع من الخلط والالتباس الخطير عند بعض العقليات، فأطاح لديها بالحواجز والفوارق الكبرى بين الصهيونية، كحركة في صلب الصراع العربي الإسرائيلي، واليهودية كديانة وثقافة وحضارة وشعب متواجد عبر المعمور، وأمة مسالمة متداخلة بين الأمم. و قفز هذا الخلط على حقائق التاريخ والجغرافيا والقيم الدينية والمفاهيم الحضارية، فتولد عنه انحراف نحو العنصرية الدينية المنبوذة حضاريا وأخلاقيا، والمدانة دينيا وقانونيا. ومرة أخرى يمهد هذا الانحراف التصوري لعودة وباء العداء الديني إلى الوجود، بعد أن كان المجتمع الأممي – ولما وضعت الحرب العالمية أوزارها – قد انتفض بكل قوانينه وشرائعه ومؤسساته وقيمه في وجه العنصرية الدينية، سواء كانت عداء ضد المسلمين أو المسيحيين أو اليهود، فيما عرف باللاسامية، لما خلفته من حرائق وخسائر وكوارث على مستوى الإنسانية وتطورها الحضاري. وتصديا لها أرسى المجتمع الأممي في مواثيقه دعائم ثقافة السلم والتعاون الإنساني والتسامح الديني، ورسخ احترام حقوق الإنسان ومفاهيم المواطنة والديمقراطية. ولم تضف هذه الثقافة الأممية، أي تجديد لقيم المغرب، الذي انتصب تاريخيا ، مثالا رائعا ، وشَمُخ قلعة متينة للتسامح الديني، واشتهر واحة أمن وأمان، تساكن في ظلالها المسلمون واليهود، وظل متحصنا من هذه الموجات العدائية ، بفضل تقاليده العريقة في احترام العقائد والديانات ،وحماية ضحايا الاضطهاد الديني، وبفضل مرجعيته الدينية الإسلامية التي شَرَّعت الضمانات والحقوق والحماية لأهل الكتاب، واليهود منهم، و شَرَّعت التعايش والتعاون بين المسلمين وأهل الكتاب، وبفضل التلاحم الوطني بين المسلمين واليهود الذي رعاه سلاطين المغرب وملوكه، وفي كنف مؤسسة إمارة المؤمنين، والمحطات التاريخية الصعبة والتي شهدت مؤازرة اليهود المغاربة لمواطنيهم المسلمين وانصهارهم إلى جانبهم في هموم البلاد، ومواجهة تحدياتها، دونما انعزال وانفصال أو تراجع. فلقد سجل التاريخ، وفي فترة نضال الحركة الوطنية من أجل تحرير البلاد من نير الاستعمار الفرنسي، موقفا مشرفا لليهود المغاربة الذين تضامنوا مع الكفاح الوطني، وعودة الملك الشرعي للبلاد، إذ لم يَعْلق بذاكرة المغاربة أن يكون قد أدرج قط اسم يهودي في لائحة الخونة والمتعاونين مع الاستعمار، ولم يحصل قط أن أريق دم يهودي طالته تصفية فدائية، ولم يسجل العمل الوطني والفدائي قط على أي فرد من اليهود عملا من أعمال الخيانة، وأن الأعمال الفدائية التي وجهت ضد الخونة وعملاء الاستعمار، لتصفيتهم، لم تستهدف قط ولو يهوديا واحدا ، وهو ما يرتسم دليلا قويا على وفاء اليهود لوطنيتهم. وحتى الحالات التي كشفت عنها بعض الأحداث العدائية في السابق، والتي طفحت بالكراهية نحو اليهود، إنما هي حالات محدودة ومعزولة وشاذة عن المتوارث، اخترقت حصانة المجتمع باختراق العنصرية الدينية لحدود العالم وعبورها قاراته. فتهييج الكراهية ضد اليهود، إنما هو عمل عدائي ضد الوطن بشكل عام، وضد الإنسانية بشكل أعم، وضد الشعب الفلسطيني بشكل خاص، لأن العدوان على اليهود إنما يصب في مخطط تنفيرهم واقتلاعهم من وطنهم، وإيقاعهم في شباك استقطابهم نحو إسرائيل وتوظيفهم في الصراع العربي–الإسرائيلي، من أجل المزيد من التشريد والعذاب والمعاناة للشعب الفلسطيني. وهو معاكسة لقيم التمسك الراسخ للمواطنين المغاربة بوحدتهم، وتسامحهم الديني، الذي تعانق تحت ظلاله، وعبر التاريخ، المسلمون واليهود. ولا ينسى ضمير الأمة المغربية، وسيظل يحن باشتياق وتصاب إلى الأيام الذهبية لهذا التعانق المثالي في التسامح، أيام كانت الأم اليهودية تلاعب أطفال الأم المسلمة، وكانت الأم المسلمة تحضن وتناغي أطفال الأم اليهودية ، وأيام كان اليهود المغاربة مبثوثين عبر قرى الوطن، وبواديه ومدنه، يساكنون المسلمين المغاربة، شتاءهم وصيفهم، ويقتسمون معهم جوعهم وفقرهم، أو يشتركون معهم بحبوحتهم ورخاءهم، وأيام كان اليهود المغاربة يجوبون قرى الوطن ، جبالا ووهادا وسهولا ، في أمان واطمئنان، يعرضون صنائعهم ومهاراتهم وبضائعهم، وينشطون التجارة حتى في أبعد نقطة قاصية من بوادي الوطن، وكانت القرى بنسائها وأطفالها ورجالها، تحتفي وتلتف حول اليهودي الحيوي النشيط، وتتبايع معه بضائعه وصنائعه، وتتداين معه المال بثقة وطلاقة في أجواء من المرح والأريحية والود والتعاون. ولم يخرج هذا التعايش عن وصايا الإسلام التي شدد من خلالها نبي الإسلام الإنكار على من يعمد إلى إيذاء النصارى واليهود الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين، بل واعتبر ذلك من النكث العظيم بالعهود والمواثيق التي شرعت لحمايتهم وضماناتهم. لكن، سيبقى التاريخ شاهدا على جريمة تهجير اليهود من المغرب نحو إسرائيل، واتخاذهم بضاعة مدرارة للثروات، مثلما سيبقى شاهدا على غدر بعض اليهود المغاربة بتحولهم إلى رؤوس حراب للصهيونية، بما أفقدهم شرف الانتماء إلى الوطن الجامع والتاريخ المشترك، والنسيج الحضاري الواحد. فإذا كانت أوروبا قد اشتهرت في زمن الهيمنة النازية بأنها كانت مقبرة وهولوكوست لليهودية وجحيما تجلى في معسكرات الإعتقال ، والتي كانت تحشر فيها عائلات يهودية بأكملها بشيوخها وأطفالها ، وكأنهم قطعان بهائم ، فإن اليهود المغاربة ، وفي ستينيات القرن الماضي ، أقامت لهم الصهيونية العالمية ، هو لوكوست آخر، امتهن آدمية اليهود المغاربة ، وحولهم إلى شبه قطعان من الماشية ، يتكدسون في البواخر بأطفالهم وفوق أمتعتهم ، في منظر يبعث على الشفقة وعلى التقزز ، في طريق تهجيرهم إلى فلسطين ، حيث الكيان الصهيوني يجثم فوق الأرض المقدسة ، بعد إخراجهم من بحبوحة عيشهم في المغرب ، وتضييعهم من أمنهم وأمانهم بين أهاليهم من المسلمين العرب والأمازيغ ، والرمي بهم في مجاهيل إسرائيل الصهيونية ، حيث الأوهام ، وحيث الخوف والجزع والقلق والكوابيس ، والأمراض النفسية ، وعجرفة الإشكيناز عليهم ، وهم اليهود القادمون من أوروبا ، وتحويلهم إلى قتلة ومجرمين وجلادين وسجانين ومغتصبين. هولوكوست شارك فيه صهاينة الوكالة الدولية لليهود ، ومخابرات الموساد ، والمتاجرون في البشر من بني جلدتنا ، وتواطأت عليه بالصمت أحزابنا الوطنية وروابط علمائنا ، ومن كان يسميهم القيادي اليساري الراحل ، ذو الأصل اليهودي ، ابراهام السرفاتي بالوطنيين الشوفينيين ، والذين كانوا ينعتون اليهود بالطابور الخامس لفرنسا الإستعمارية، ويحرضون على حرمانهم وإقصاءهم من شرف النضال الوطني ، ويستكثرون عليهم صفة الوطنية . وقد قاوم الراحل السرفاتي مؤسس - منظمة إلى الأمام اليسارية - ، هذا التهجير الصهيوني لليهود المغاربة مقاومة ضارية ، حيث كان يرابط في ميناء الدارالبيضاء ، ويخطب بشجاعة نادرة ودن وجل ، على جموع اليهود من بني ديانته ، المحشورين حشرا على أرصفة الميناء ، كالفئران المذعورة ، لتكديسهم في البواخر الراسية ، بإشراف صهيوني ومغربي مشترك ، ويخطب عليهم فاضحا لهم الأكاذيب الصهيونية التي كانت تلوح لهم ببريق الجنة الموعودة على أرض فلسطين ، كان منظرا بشعا شبيها بمنظر تجارة الرقيق الأسود التي كانت تختطف الأفارقة السود من صحاري وأدغال افريقيا وتسوقهم على البواخر ، بضاعة نحو أمريكا . وفي بعض القرى ، كان المغاربة المسلمون ، يصدون بالنحيب والبكاء الجماعي ، حافلات الستيام التي كانت تصطف لتنقيل مواطنيهم اليهود من قراهم نحو ميناء الدارالبيضاء ، ويمنعونها من حمل إخوانهم اليهود ، ويناشدونهم ، للحيلولة دون التفريق بينهم ، بعد حياة مشتركة وعشرة من مئات السنين . وسكت العالم عن مئات الأطفال من أبناء اليهود المغاربة ، كانت الوكالة اليهودية تخرجهم من المغرب تحت تمويه وغطاء رحلات للإستجمام نحو سويسرا ، ثم تحولهم إلى فلسطين حيث إسرائيل الغاصبة ، وسكت العالم الحر ذو العقيدة في حقوق الإنسان عن فضيحة غرق سفينة في عرض البحر قرب السواحل المغربية ، غرقت فأقبرت معها حشودا من اليهود المغاربة المهجرين . ومن الوفاء اللازم لأقدار الرجال ، ينبغي أن يخلد بعض اليهود المغاربة في سجل الأبطال الوطنيين التاريخيين ، ممن جاهروا بنضالهم ضد الصهيونية ، معرضين أنفسهم لمخاطر ماحقة ، ومنهم الراحلون ابراهام سرفاتي ، شمعون ليفي القيادي السابق في حزب التقدم والإشتراكية ، وإدمون عمران المالح الأديب المعروف ، وممن لا يزالون يجاهرون بموقفهم ، من أمثال أسيدون صهيون المناضل اليساري والمعتقل السياسي السابق . بنفس الحجم الذي ينبغي أن يسجل به في سجل العار والغدر والنذالة بعض من اليهود ممن تنكروا لجذورهم العربية والأمازيغية في حضن الحضارة الإسلامية ، والتي ساهم فيها أجدادهم ، وآوو إليها ، مكرمين ، فتنصبوا دهاقنة في قيادة المشروع الصهيوني ، وأمعنوا في تقتيل وتشريد الشعب الفلسطيني ، وفي اغتصاب أراضيه ودياره وممتلكاته ، بما أصبحوا معه ضالعين في جرائم الحرب والإبادة ضد الإنسانية والإرهاب ضد الفلسطينيين ، والمتاجرة في بؤس اليهود المغاربة ، وبما يستحقون به حرمانهم وإلى الأبد من غفران الوطن والعودة إليه .