إن الوضع السياسي في الدول العربية التي عاشت ما سمي قسرا بالربيع العربي لاينبئ بانفراج ديمقراطي واعد؛ فالمسألة ليست في تغيير هرم السلطة بآخر، ولا هو في تحريك وتهييج جماهيري كبير يتدفق في ساحة من ساحات الثورات العربية، ولا هو في محاكمة من أطيح بهم، ولا في تكريم ضحايا الثورة بنحث تماثيل تذكارية لهم، فكل هذه الأمور ليست بألويات فقه الديمقراطية الحديثة. إن المطالبة بالديمقراطية الحديثة تحتاج إلى القيام بخطوات نجملها في الآتي: 1- القطع مع الانتماء القبلي: يلاحظ الدارس لبنية المجتمعات العربية أن الثقافة السائدة فيها هي ثقافة الانتماء للقبيلة بل والتعصب لها، والانتصار لها ولائيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا ولو كانت ظالمة في توجهاتها السياسية. ومن هذا المنطلق، فإنه لا يمكن الحديث عن تسويق لثقافة الديمقراطية بمعناها القانوني والدستوري في الدول العربية إلا إذا تمت إعادة بناء الذهنية العربية عبر سيرورة تاريخية طويلة الأمد، مما يعني أن البناء الديمقراطي الناضج يستلزم انخراط ثلاثة أجيال على الأقل في مسلسله. 2- التطبيع الإيجابي مع المقولات القانونية والدستورية الحديثة: إلى أمد قريب سخرت الدول العربية كل طاقاتها الثقافية، وإرثها التاريخي القبلي في محاصرة المفاهيم الغربية في مجال الحكم، واعتبرت المروج لها من الداخل صابئا ومارقا عن قانون الجماعة، والمضمر في لفظة الجماعة "القبيلة" بطبيعة الحال. فعوض أن تسعى الدول العربية إلى تحيين مقولاتها في الحكم الموروثة عن الآداب السلطانية وتكييفها قانونا وشرعا مع المفاهيم الغربية الوافدة اكتفت بتبني سياسة الاحتراز الثقافي في عصر يعز فيه تحقيق أي انتصار في هذه الحرب الثقافية ولو كان ضئيلا. والمطلوب اليوم من هذه الدول هو القيام بمصالحة إرادية وواعية مع كل ما أنتجته البشرية من أنظمة للحكم والتفاعل مع ذلك أخذا وعطاء. 3- ترسيخ ثقافة الواجب: استفاقت الشعوب العربية المعاصرة عبر تبني الدولة الوطنية ظاهريا على تغليب ثقافة الحق وسيادتها في الأوساط القانونية والسياسية، الأمر الذي أخل بثقافة الواجب في الحياة اليومية للمواطن العربي. وأصبح لا يتفوه إلا بشعارات تمجد المطالبة بالحق، وبعدم المسامحة بشأنه بل تكونت لديه عقيدة نفسية خطيرة تجاه مؤسسة اسمها الدولة، وبات ينظر إليها على أنها "التنين الواقعي" لا تتورع في افتراس ممتلكات مواطنيها، مما جعله يثقل كاهلها بالإكثار من المطالبة بالحقوق. ومن هذا المنظور، نرى بأن الدول العربية، وبخاصة مواطنيها، في حاجة اليوم إلى تعميم ثقافة الواجب وترسيخها؛ بحيث يكون القيام بالواجب هو الأصل في المطالبة بالحكم الديمقراطي الحديث، فالكثير من المواطنين في الدول العربية لا يقومون بالواجب تجاه أوطانهم، لا يعملون ولا يسعون في الإصلاح، وقلما يسائل المواطن نفسه عن ما ذا قدم لبلده؟ ولكن لا يستحيي من نفسه حين يقول: إن حقوقنا مهضومة في أوطاننا، وسدة الحكم عندنا مستبدة وغير شرعية، و..." 4- سيادة فكرة المواطنة القانونية: تتميز بنية المجتمعات العربية بتنوع العنصر المكون لها إثنيا وعرقيا وطائفيا، وفي الغالب هذه العناصر تسودها الروح القبلية كما مر معنا أعلاه، مما يجعل سلوكياتها الثقافية والقانونية لا تخرج عن التعصب لأحد مكونات الهوية لديها. وبما أن الديمقراطية نظام يسع لكل الخلافات المجتمعية عبر الاحتكام إلى صوت الأغلبية وفق قواعد دستورية، فإن مدخل نجاحها هو سيادة فكرة المواطنة القانونية في الدولة؛ حيث الإنصاف والعدل، وحيث المساواة في الحق والواجب لجميع المواطنين. وقد أدى غياب فكرة المواطنة القانونية في الدول التي أصيبت بعدوى الربيع العربي إلى جعل المطالبة بالحكم الديمقراطي تحكمه تحكمات الأشخاص والجماعات الحركية والأحزاب الفاسدة المستبدة، وهكذا أصبح الإنسان العربي يسمع مصطلحات تعايش معها عقودا (مثل الأمة والجماعة والعشيرة...) دون أن تلبي له مطالبه في الحرية والعدالة والكرامة، وهذه المصطلحات ترددت بقوة في الربيع اليمني والليبي. 5- تهذيب الخطاب السياسي وتبيئه: تعتبر معضلة الخطاب والتخاطب من أكبر مزالق مسار الدول العربية في الحكم؛ بحيث لا نكاد نسمع خطابا جامعا يستهدف كل الشرائح الاجتماعية. فالخطيب السياسي العربي لا يتورع عن استصحاب في مهرجاناته الخطابية ثنائية "معنا أو ضدنا"، كما أنه يوحي أكثر مما يصرح، وهذا السلوك يجعل المتلقي يفهم بأنه أمام خطاب دوغمائي لا مجال فيه لقواعد خطاب الديمقراطية التشاركية. فالخطاب في النظام الديمقراطي يخاطب الدولة الأمة، ويستبعد كل الانتماءات الضيقة التي تعوق مسار تحقيق المصلحة العامة، ولكن في دول الربيع العربي انحرف الخطاب السياسي عن هذه الغاية. ولا يمكن الدخول في مسلسل النظام الديمقراطي دون اللجوء إلى تهذيب الخطاب العربي السياسي ليكون خطابا مقصودا في شموليته، وصريحا في مراميه، خطابا غايته المثلى إسعاد وخدمة الإنسان المواطن. : باحث في العلوم السياسية والفكر الإسلامي