لم يكن مساء التاسع عشر من فبراير سنة 2011 مساء عاديا بالنسبة لأعداد من الشباب المغاربة، الذين كانوا يضعون اللمسات الأخيرة على استعداداتهم للنزول إلى الشوارع في اليوم الموالي، ليحدثوا أكبر انعطافة في المسار السياسي للمملكة خلال الألفية الجديدة، وسيظل تاريخا محفوظا في الذاكرة الاحتجاجية للشعب المغربي، العشرون من فبراير 2011. أحداث كثيرة تلاحقت في تلك الساعات، واتصالات كثيرة جرت على أصعدة متعددة، وتناقلت وسائل الإعلام المختلفة الأخبار المواترة حول إلغاء المسيرات الاحتجاجية، والأخبار المضادة التي أكدت بقاء الاحتجاجات في موعدها، فيما كانت الأجهزة الأمنية تتحرك على أعلى مستوى، في محاولة لاحتواء النمط غير التقليدي للتظاهر الذي اختاره شباب لم يخفوا هوياتهم، ودعوا المغاربة بوجوه مكشوفة إلى إسقاط الفساد والاستبداد. أياما قليلة قبل ذلك، جرت نقاشات ومفاوضات بين شباب الحركة التي كانت تعيش مرحلتها الجنينية، ومفاوضات أخرى مع أطراف سياسية وحقوقية متعددة، اختلفت مواقفها من النزول إلى جانب الحركة الشبابية، ووضع بعضها شروطا كانت لها آثار مستقبلية على مسار الاحتجاجات. نعيد تركيب فصول اللحظات الأخيرة التي سبقت اليوم الموعود، وتكشف جوانب جديدة في الصورة الكاملة للتاريخ الذي تحل ذكراه الثانية هذا اليوم، في الوقت الذي لا يزال فيه النقاش حول التغيير والإصلاح في المغرب مطروحا بحدة من طرف البعض، ويحاول آخرون استلهام روح جديدة للثورة. موجة التغيير بن علي يفر من تونس، وحسني مبارك يتخلى عن الحكم في مصر، أنظمة عربية تتهاوى، وحرية يفوح عبيرها في سماء المنطقة، لتصل رائحتها إلى المغرب الأقصى، حيث الاحتجاجات لم تتوقف على السياسات الحكومية طيلة سنوات، ومن فئات اجتماعية ذات مطالب مختلفة، لكن المشهد الجديد المعروض على شاشات التلفاز، وحد الرغبة في التغيير بين فئات عريضة من الشباب، الذين وجدوا فرصتهم الذهبية لإعلان الحرب على الفساد والاستبداد. ظهرت أولى الصفحات المطالبة بالتغيير في المغرب على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، أياما قليلة بعد سقوط نظام بنعلي في تونس، وكانت في البداية تحمل اسم «مغاربة يتحاورون مع الملك»، وأسسها عدد من الناشطين في مجال التدوين، بينهم رشيد عنتيد، قبل أن يتحول اسم الصفحة إلى «حركة حرية وديمقراطية الآن»، وبرز من بين نشطائها أيضا الشاب أسامة الخليفي، الذي صار فيما بعد ناطقا رسميا باسم شباب 20 فبراير. وإلى جانب حركة «حرية وديمقراطية الآن» خرجت إلى الوجود مجموعة تحمل اسم: «الشعب يريد التغيير» وثالثة تدعى «الانتفاضة من أجل الكرامة»، واستقطبت كل واحدة منها آلافا من الشباب المغاربة، دار النقاش بينهم حول النزول إلى الشارع من أجل المطالبة بإصلاحات، فيما أعلنت كل واحدة من الصفحات الثلاث أرضيتها التأسيسية ومطالبها الرئيسية. بعد يومين من انطلاقة الثورة المصرية، اتفقت أغلب النقاشات الدائرة بين الشباب في الصفحات الثلاث على إعطاء النظام مهلة شهر واحد من أجل الاستجابة للمطالب المسطرة في بياناتها، قبل النزول إلى الشارع للاحتجاج، وهو ما كان يعني مبدئيا تحديد يوم 27 فبراير موعدا للتظاهر. إشاعات: الموجة 1 ويروي منعم أوحتي، أحد الشباب الذين بادروا إلى الدعوة للتظاهر منذ اللحظات الأولى، كيف انتشرت الشائعات حول الحركة وأعضائها وارتباطاتهم بالخارج، بعدما تبين أن تاريخ 27 يناير المحدد كموعد للتظاهر يصادف يوم إعلان قيام جبهة البوليزاريو، وهو ما استغلته الأطراف المناوئة للحركة الشبابية الوليدة من أجل إلصاق عدد من الاتهامات الثقيلة بأفرادها، من قبيل العلاقة بأعداء الوحدة الترابية، والارتباط بالخارج والتبعية للجبهة الانفصالية، ومحاولة زعزعة استقرار البلد. هذه الإشاعات حركت نقاشا واسعا على الإنترنت، بين فئة رأت ضرورة التشبث بالموعد المعلن للاحتجاج، طالما أنه لم يكن مخططا له في البداية أن يصادف أي تاريخ لأي طرف داخلي أو خارجي، وأصر أصحاب هذا الرأي على أن اتهامات «المخزن» لا تعني الحركة الاحتجاجية في شيء. أما الفئة الثانية، فرأت أن من الأفضل تغيير التاريخ المعلن، لتفادي الاتهامات التي شرعت عدد من وسائل الإعلام في ترويجها، وإعطاء بعد وطني واضح للحركة، كما يقول أوحتي، خصوصا وأن الأمر يتعلق بقضية الصحراء التي تحظى بإجماع وطني بين جميع المغاربة، رغم بعض المواقف الخاصة لتيارات سياسية معينة. ويؤكد أسامة الخليفي أن التراجع عن تاريخ 27 فبراير تم خلال ساعات قليلة من إعلانه، حيث جرى تحديد الموعد الجديد بالاتفاق بين النشطاء على موقع «الفيسبوك»، ولم يعرف أي اعتراض يذكر من أي من الجهات الداعية للاحتجاج، ليعتمد التاريخ بعد ذلك رسميا. وفي يوم فاتح فبراير 2011، ظهرت إلى الوجود صفحة «حركة 20 فبراير» التي أطلقت لأول مرة هذا الاسم على الحركة الاحتجاجية، وتلقفته وسائل الإعلام بعد ذلك ليصبح الوصف الرسمي لحركة التظاهر المرتقبة، وكان مؤسس الصفحة هو سعيد بن جبلي، رئيس جمعية المدونين المغاربة، والناشط المعروف بتوجهاته الإسلامية، إلا أن هويته ظلت حينها طي الكتمان. قاد أسامة الخليفي بعد ذلك اتصالات بين أعضاء الصفحات الأولى، كما صرح ل»المساء»، من أجل توحيد الجهود تحت مجموعة واحدة، فظهرت في الرابع عشر من فبراير صفحة «شباب 20 فبراير»، وأصدرت أول بيان لها على يد أسامة الخليفي نفسه، الذي أصبح ابتداء من ذلك التاريخ الناطق الرسمي باسم الحركة الاحتجاجية. المجلس الوطني قبل ساعات من تنازل الرئيس المصري محمد حسني مبارك عن الحكم في أرض الفراعنة، كانت مجموعة مكونة من جمعيات حقوقية وأحزاب سياسية تتظاهر في الرباط لدعم مطالب الشعب المصري، وهي الفرصة التي شكلت مناسبة لأول لقاء يجمع شباب حركة 20 فبراير بالهيئات التي شكلت فيما بعد «المجلس الوطني لدعم حركة 20 فبراير». ويؤكد سعيد بن جبلي أن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان رفضت في بداية الأمر النزول إلى جانب شباب الحركة، وأعلنت أنها ستكتفي بدور المراقب، وتقدم الدعم الحقوقي للمتظاهرين، لكن هذا الموقف تغير فيما بعد، بعد اتصالات أخرى بين أسامة الخليفي وعبد الحميد أمين، توجت بإعلان الجمعية المغربية لحقوق الإنسان مشاركتها في الاحتجاجات. وبناء على ذلك، عقد أول اجتماع ميداني للحركة في مقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط، في 10 فبراير، لتنتقل الحركة عند هذا التاريخ من العالم الافتراضي إلى الواقع لأول مرة منذ بداية تحضيراتها. بالموازاة مع ذلك، كانت الاتصالات جارية مع جماعة العدل والإحسان، من أجل دفعها للمشاركة في التظاهرات، وهو ما تكفل به في البداية كل من نجيب شوقي وسعيد بن جبلي، وأعلنت فيه الجماعة عن قبولها المشاركة دون شروط، واستجابت فيما بعد للشروط التي طرحها شباب الحركة، ممثلين بأسامة الخليفي وحكيم صيكوك، بعد ندوة 17 فبراير. الحركة الشبابية اشترطت على الجماعة، كما يقول صيكوك، عدم حمل أي لافتات تشير إلى الجماعة، وعدم التمييز بين المتظاهرين، وعدم رفع شعارات دينية، وهو ما قبلته الجماعة، وأعلنت بذلك التحاقها بالمجلس الوطني لدعم الحركة، والذي كان ينتظر الإعلان عن نفسه تحت مسمى «المجلس الديمقراطي لدعم حركة 20 فبراير»، لكن أطرافا فيه رأت أن التحاق العدل والإحسان ينزع عن أطراف المجلس صفة الديمقراطيين بوجود الجماعة الإسلامية. ضغط وتعديل يعترف أسامة الخليفي في تصريحه ل»المساء» أن ضغط عبد الحميد أمين، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان جعل البيان الصادر في ندوة 17 فبراير 2011، والمنعقدة بمقر الجمعية بالرباط، يسقط مطلب «الملكية البرلمانية» من مطالب الحركة، ويعوضه بعبارة «دستور شعبي ديمقراطي»، وهي التي تعبر عن أبجديات حزب النهج الديمقراطي. ويؤكد بن جبلي أن هذا التعديل تم دون استشارة باقي المجموعات التي وقع البيان باسمها، ويرى أن «اختلال» سقف المطالب لدى الحركة كان له تأثير على المدى البعيد في مسارها، وأدى إلى تراجع دورها بشكل واضح بعد سنتين من انطلاقتها، فيما يقول حكيم صيكوك إن هذا التغيير كان نابعا من اقتناع بأن الحركة غير معنية بتحديد طبيعة النظام، وترك المجال أمام الأحزاب السياسية في هذا الباب، خصوصا في ظل تواجد أطراف ذات رؤى مختلفة بين دعاة الملكية البرلمانية والجمهوريين. وتتطابق الروايات بين عدد من النشطاء البارزين في الحركة حول عدم اشتراط جماعة العدل والإحسان أي شروط من أجل المشاركة، رغم أنها امتلكت الزخم العددي، بعكس أحزاب اليسار الجذري، التي فرضت شروطها على شباب الحركة، وهو ما اتضح جليا في وجود فقرات منقولة حرفيا من أبجديات حزب النهج الديمقراطي في البيان، الذي تلاه أسامة الخليفي في الندوة الصحفية المذكورة، وجلس إلى جانب الخليفي كل من الناشطة تهاني مضماض، وخديجة الرياضي، رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. عدالتان وتنميتان ربط بن جبلي اتصالات موازية مع أعضاء بارزين في حزب العدالة والتنمية، من أجل طلب مشاركة الحزب الإسلامي في الاحتجاجات المنتظرة، وهو ما استجابت له شبيبة الحزب عبر بيان تعلن فيه مشاركتها، قبل أن يفرض الأمين العام للحزب، عبد الإله بنكيران على شبيبته التراجع وإعلان الانسحاب، تحت التهديد بحلها. ولم تكن الشبيبة وحدها من أعلنت نيتها المشاركة، بل انضم إليها قياديون بارزون في حزب «المصباح»، على رأسهم مصطفى الرميد وعبد العالي حامي الدين وعبد الله بوانو وعبد العزيز أفتاتي، الذين نزلوا للتظاهر بالفعل يوم 20 فبراير، رغم قرار الأمانة العامة عدم المشاركة، وظهر حينها انقسام كبير داخل حزب الدكتور الخطيب. لم ييأس شباب البيجيدي المتحمسون للمساهمة في الحراك الشعبي من الخروج، خصوصا بعدما برز اسم سعيد بن جبلي، العضو السابق في جماعة العدل والإحسان كأحد قيادات الحركة الاحتجاجية، وهو ما عزز لدى الشباب المنتمين للتيارات الإسلامية فكرة الخروج، بعدما اتضح وجود نوع من التوازن داخل الحركة، وعدم انفراد أعضاء حركة «مالي» و«الملحدين» بها كما كان يروج من قبل. أسس شباب العدالة والتنمية إطارا خاصا بهم على «الفيسبوك»، تحت مسمى «حركة شباب ضد الفساد والاستبداد»، التي عرفت اختصارا بحركة «باراكا»، والتي شكلت إحدى المجموعات التي جابت شوارع الرباط في الصباح الموعود، وخرجت تحت لافتاتها قيادات العدالة والتنمية، وشخصيات أخرى بينها رجل الأعمال الشهير الملياردير ميلود الشعبي. وجوه مكشوفة كان أسامة الخليفي أول ناشط فبرايري يظهر بوجه مكشوف، داعيا إلى الخروج للتظاهر عبر شريط فيديو بث على موقع «اليوتيوب»، وجرى تصويره بمقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في الرباط، باستعمال خلفيات مختلفة، وكاميرا ذات جودة عالية، ودعا الفيديو المغاربة للنزول إلى شوارع المدن والقرى لإسقاط الفساد والاستبداد. تبع الفيديو إعلان عدد من مديري صفحات المجموعات المختلفة على الإنترنت عن أسمائهم، تفاديا لموجة الشائعات الأولى، التي ألصقت بهم تهما مختلفة، وهو ما جعل التواصل مع وسائل الإعلام متاحا لعدد من الوجوه التي أخذت صدى إعلاميا منذ ذلك الحين. وفي يوم 18 فبراير أخذ التواصل عبر وسائل الإعلام العالمية منحى تصاعديا مع قرب اليوم الموعود، كما يؤكد سعيد بن جبلي، الذي توجه يومها إلى الرباط، حيث كانت مهمته تقضي بالتواصل مع الإعلاميين، وأقدم هو وعدد من رفاقه على خطوة ذات دلالات كبيرة، بناء على ما جرى في الثورتين التونسية والمصرية. صور بن جبلي وآخرون وصاياهم، تمهيدا لاحتمال وفاتهم جراء تدخل دموي من قبل قوى الأمن، في حالة ما إذا سارت الأمور في منحى عنيف، كما سجل الناشطون بمقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أيضا نداء إلى الملك محمد السادس، استعدادا لاحتمال الاعتقال أو الاختطاف... ويؤكد النشطاء أن جميع الاحتمالات كانت مطروحة في هذا الوقت، بما فيها استعمال القوة من طرف قوى الأمن، أو قيام ثورة حقيقية، أو حتى خروج بضع عشرات فقط من النشطاء، وعدم استجابة الشارع المغربي لدعوات الاحتجاج، وأصبح الاحتمال الأخير مطروحا أكثر بعد لعب «الدولة» آخر أوراقها قبل ساعات من لحظة الصفر. نقاشات داخلية خاض النشطاء الفبرايريون على صفحاتهم في «الفيسبوك» وفي لقاءاتهم الميدانية نقاشات مختلفة حول عدد من المواضيع التي طرحت على طاولة الحركة في فترة الإعداد، سواء تعلق الأمر باختيارات مطلبية، أو قضايا ذات بعد رمزي. وفي الدارالبيضاء مثلا، وقبل توجيه الدعوة لجماعة العدل والإحسان للمشاركة في المسيرات، جرى نقاش بين الأعضاء حول توجيه الدعوة من عدمه، وانقسمت الآراء بين أغلبية ترى في الجماعة خزانا بشريا ينبغي الاستفادة منه، وأقلية تتخوف من احتمال سيطرة الجماعة على القرار داخل الحركة الشبابية، قبل أن يستقر الأمر في الأخير على توجيه الدعوة التي قبلتها دون شروط. ومن القضايا ذات البعد الرمزي، والتي ثار النقاش حولها مسألة حمل الأعلام الوطنية أثناء المسيرات، وبعد نقاش لم يدم طويلا قرر النشطاء حمل الأعلام الوطنية، وهو ما تم بالفعل في مسيرة الدارالبيضاء، بعكس ما كان عليه الأمر في مدن أخرى غابت عن مسيراتها الأعلام الوطنية. كما حسم النقاش أمر الشعارات التي سيتم رفعها، واتجهت جميعا في منحى المطالبة بنظام ملكية برلمانية، واستبعدت شعارات إسقاط النظام بشكل مطلق من النقاش ومن المسيرات. المسكوت عنه لم تخل الحركة منذ نشأتها من انقسام وتباين في الآراء والمواقف بين مختلف مكوناتها، بالنظر إلى الحساسية التي كانت تتعامل بها التيارات المختلفة مع بعضها البعض، ورغم محاولاتها للتغطية على هذه الخلافات فإنها شكلت بذور التوتر الذي أدى بعد بضعة أشهر إلى خروج أطراف سياسية وشبابية من الحركة. ومن بين الأمور التي فضل الفبرايريون السكوت عنها قيام أسامة الخليفي ب»تحريف» الأرضية التأسيسية، لتتضمن مطلب الدستور الشعبي الديمقراطي، بدل الملكية البرلمانية، كما سلف الذكر، وهو الأمر الذي أثار أيضا قلق أحزاب مثل اليسار الاشتراكي الموحد وحزب الطليعة، لأنها رأت أن المستفيد الأكبر من ذلك سيكون حزب النهج الديمقراطي وجماعة العدل والإحسان. كما اختلفت آراء الفبرايريين حول عدم مشاركة حزب العدالة والتنمية في الاحتجاجات، فبينما تأسف سعيد بن جبلي على موقف «البيجيدي» الذي كانت مشاركته ستعطي شحنة إضافية للحركة الاحتجاجية، قال حكيم صيكوك، الناشط اليساري، إنه فرح لعدم نزول حزب العدالة والتنمية رسميا في الاحتجاجات، نظرا لأنه حزب «يتماهى مع الملكية، وليس ديمقراطيا». 19 فبراير كان هذا اليوم طويلا ومرهقا بالنسبة للنشطاء الفبرايريين في أكثر من مدينة، حيث خرج أعضاء الحركة في الدارالبيضاء إلى شوارع المدينة من أجل توزيع البيان الذي طبعوا نسخا منه بمساهمات الأعضاء، وتضمن الدعوة للمشاركة في الاحتجاجات، وضمت المجموعة نحو 20 فردا جابوا أهم الشوارع، انطلاقا من مقر الحزب الاشتراكي الموحد، ووصولا إلى شارع الأمير مولاي عبد الله في قلب المدينة. في هذه الأثناء، زجت أحزاب سياسية بنفسها في النقاش الدائر حول الحركة الاحتجاجية المرتقبة، حيث أعلن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عن تأييده لمطالب الشباب الذين ينوون الخروج في مسيرات احتجاجية، وأعلن عدد من قيادييه مشاركتهم فيها. من جانبه أعلن حزب الأصالة والمعاصرة أيضا دعمه لمطالب الشباب الداعين إلى التظاهر، ومطالبته بتغيير حقيقي في البلاد، بالرغم من أن أيا من قياداته المعروفة لم تخرج في المسيرات الاحتجاجية، فيما رفع المحتجون لافتات تطالب بحل الحزب باعتباره «حزب السلطة». إشاعات: الموجة 2 يؤكد الناشط منعم أوحتي أن ظهور نشطاء الحركة بشكل علني وبوجوه مكشوفة فوت على الأجهزة الأمنية إمكانية التعامل مع الحركة بالطريقة التقليدية المعتمدة في الحالات التقليدية، فلم يجد «المخزن» وصفة جاهزة للقضاء على الحركة الاحتجاجية في مهدها، لذا انصبت جهوده على التتبع والمراقبة، سواء على المستوى الافتراضي أو على أرض الواقع. استمر ترقب الأجهزة الأمنية وتجميع المعطيات خلال الأيام الأخيرة التي سبقت اليوم الموعود، فيما نقلت مصادر مطلعة أن مديرية مراقبة التراب الوطني «الديستي» عاشت حركية غير مسبوقة خلال هاته الفترة، وتمكنت الأجهزة الأمنية من تحقيق اختراق في صفوف الحركة، عبر استمالة بعض الوجوه المعروفة وتلميع صورتها في البداية، قبل استعمالها في اللحظة المناسبة لإعلان موت الحركة الاحتجاجية في مهدها. وقبيل ساعات من صباح الأحد، رتبت وزارة الاتصال ندوة صحافية للناشط رشيد عنتيد، مؤسس صفحة حركة حرية وديمقراطية الآن، وحضرتها مختلف وسائل الإعلام، أعلن فيها عن التراجع عن الخروج في اليوم الموالي، بعد «اختراق» الحركة الشبابية من قبل أطراف تريد العبث بأمن واستقرار البلد. وأعلن عنتيد أن الحركة لن تتظاهر يوم 20 فبراير، بعدما سيطرت تيارات متطرفة، وفق وصفه، على رأسها جماعة العدل والإحسان الإسلامية، وأحزاب اليسار الراديكالي عليها، وحرفت مسارها، وأزاحت سقف الملكية البرلمانية لصالح أجنداتها الخاصة، وهو الإعلان الذي طارت به وكالة المغرب العربي للأنباء إلى مختلف وسائل الإعلام الوطنية والدولية، التي نقلت عنها الخبر. في الوقت نفسه، وبالموازاة مع هذه الخطوة، توقفت جل الصفحات والمجموعات الشبابية على «الفيسبوك» عن العمل، بعد قرصنتها من طرف جهات مجهولة، باستثناء صفحة «حركة 20 فبراير»، التي كان يديرها كل من نجيب شوقي وسعيد بن جبلي، والتي كانت تضم حينها نحو 30 ألف عضو. اضطر بن جبلي إلى وضع رقم هاتفه على الصفحة، بعدما أصدر بيانا مقتضبا يعلن فيه أن من تراجعوا عن الخروج هم خونة، خانوا القضية التي من أجلها وجهت الدعوات للتظاهر، ويدعو فيه إلى استمرار الحشد من أجل النزول في اليوم الموالي. ليل طويل كانت الليلة الأخيرة طويلة بالنسبة لنشطاء الحركة، فبالإضافة إلى التوتر الكبير، والأرق الذي زار النشطاء جميعا، لم تنقطع المكالمات الهاتفية طيلة الليل، من داخل المغرب وخارجه، للتأكد من عدم التراجع عن النزول للاحتجاج، بينما تلقى نشطاء عشرات المكالمات الهاتفية ومئات الرسائل الإلكترونية التي تهدد بالتصفية الجسدية، كما يقول بن جبلي. ويضيف أسامة الخليفي أن هواجس متعددة كانت تؤرق بال النشطاء، وجعلتهم يبيتون ليلتهم في انتظار الصباح، خصوصا حول التعامل الأمني مع الاحتجاجات، والأعداد التي يمكن أن تستقطبها دعوات النزول، فضلا عن توارد الأنباء عن بعض المضايقات الأمنية هنا وهناك، والتي شملت بعض الناشطين وأسرهم. سجل الناشطون الذين كانوا لا يزالون مجتمعين في تلك الأثناء شريط فيديو جديدا، يؤكد نزولهم في الصباح الموالي، وبث على موقع اليوتوب، وغادروا مقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في حدود الساعة العاشرة ليلا، بعدما استقر رأيهم على التفرق، خشية مداهمة قوات الأمن للمقر واعتقال الناشطين، وفق رواية حكيم صيكوك. الترتيبات الأخيرة كانت قد انتهت للتو، حيث قام خطاط بكتابة اللافتات الورقية التي حملها الناشطون في اليوم الموالي، ولم يكن يحضر الاجتماعات التي كانت تعقد بشكل يومي أكثر من 20 فردا، شكلوا النواة الأولى للحركة، منهم من تخصص في كتابة الشعارات، وآخرون في التواصل مع الإعلام، وغير ذلك. تحالف القوى في الصباح الموعود، التقى النشطاء مرة أخرى عند الساعة السادسة والنصف تقريبا، وتوجه بعضهم إلى منطقة باب الأحد، لمعرفة الأجواء التي تسبق الاحتجاجات، ومدى التواجد الأمني والتشكيلات التي حضرت إلى عين المكان. في الطريق إلى شارع محمد الخامس، تساقطت زخات من المطر على العاصمة الرباط، وهنا التفت أسامة الخليفي إلى بعض رفاقه وخاطبهم مازحا: «هل هي الطبيعة تتحالف مع الاستبداد؟»، لكن ما فاجأ الناشطين حقا هو غياب قوات الأمن بشكل ملفت للنظر، ولم يكن المشهد متوقعا على الإطلاق. ويكشف حكيم صيكوك من جانبه عن تفاصيل اللحظات الأولى من صباح العشرين من فبراير، حيث كان يخاطب نفسه وهو متوجه رفقة زملائه إلى مكان التظاهر قائلا: «زيد أصيكوك تغوت بوحدك، لا أعتقد أن الناس سيتجاوبون، وهذا المطر سيجعل من قرر الخروج يتراجع». لكن تحالف قوى الطبيعة مع قوى الاستبداد، كما قال الخليفي، لم تمنع الآلاف من النزول إلى شوارع الرباط في صبيحة العشرين من فبراير، حيث وجد الناشطون أنفسهم أمام أعداد غفيرة من المواطنين الذين لبوا النداء، وشرعوا في رفع الشعارات حتى قبل الوقت المحدد لانطلاق المسيرات. وباستثناء الصحافيين ووسائل الإعلام، لم ينتبه الكثيرون إلى وجود الأعضاء المؤسسين في المسيرات، ولم يتعرف عليهم غالبية المتظاهرين الذين انخرطوا في ترديد أولى شعارات «الربيع العربي بالمغرب»، فيما بادرت القنوات الأجنبية إلى أخذ تصريحات من النشطاء. ويؤكد صيكوك أن وسائل الإعلام المختلفة كانت تحاول اختيار أطراف معينة لتقديم تصريحات توافق سياسات البث لديها، وتختار النشطاء بناء على مواقفهم من الملكية مثلا، سواء بالإيجاب أو بالسلب، وكان الحضور الإعلامي لافتا حتى قبل انطلاق المسيرات. رياح الانتفاضة يعتقد عدد من الناشطين الفبرايريين أن الحركة الاحتجاجية في المغرب ستشهد موجة ثانية قد تكون أكثر حدة من موجة 20 فبراير، نظرا لاستمرار نفس السياسات التي أدت إلى خروج الاحتجاجات قبل سنتين من يومنا هذا. ويعتبر منعم أوحتي أن شروط عودة الحركة الاحتجاجية أصبحت أكثر إلحاحا من الظروف التي نشأت فيها أول الأمر، حيث يستمر ارتفاع الأسعار بشكل يمس مباشرة بالقدرة الشرائية للمواطنين، ويشهد الوضع الحقوقي تراجعا، على حد وصفه، عبر ضرب الحريات الفردية والجماعية، والتلويح المستمر بحذف صندوق المقاصة. ويرى الناشطون أن «الارتباك» الذي يطبع تسيير حكومة عبد الإله بنكيران لشؤون البلاد، ينذر بعودة قريبة للاحتجاجات، بشكل أقوى مما كانت عليه، ما لم تتحقق إنجازات حقيقية على الأرض، تأخذ بعين الاعتبار المطالب التي سطرتها حركة 20 فبراير في بيانها التأسيسي. ملحوظة: نشر هذا الموضوع في جريدة "المساء" في الذكرى الثانية لانطلاق حركة 20 فبراير، أنجزه الصحافي عبد الصمد الصالح، رئيس تحرير جريدة الرأي المغربية حاليا.