يدرك المتتبع لنتائج الانتخابات الجماعية والجهوية التي جرت في بلادنا يوم الجمعة 4 شتنبر 2015، التحول الهيكلي والبنيوي في الخريطة السياسية المغربية والتغير الإيجابي في العملية الانتخابية، الناتج عن الوعي الشعبي بقواعد العمل السياسي وأساليب تدبير الشأن العام المحلي، وكذا بالطرق القانونية والدستورية الكفيلة بردع ومعاقبة تجار السياسة والمفسدين والمستبدين والمتحكمين. ويتضح ذلك جليا من خلال نسبة التصويت التي قاربت 53.70 % –وهي نسبة إيجابية باعتبار الظروف والسياق الذي مرت فيه هذه الانتخابات- والتي عُوقب بها رؤساء ومستشاروا الجماعات المحلية الذين فشلوا في تسيير شؤون المواطنين وتدبير مصالحهم فيها، وفي نفس الوقت هو تفويض لأحزاب الأغلبية، ورجوع إلى منح الثقة مجددا لحزب العدالة والتنمية كما تم ذلك في انتخابات 2011، كقناعة وإجماع شعبي على نجاح التدبير الحكومي بعد أربع سنوات من العمل، وكوكالة لمواصلة مسلسل الإصلاح ومحاربة الفساد والاستبداد، وكإرادة شعبية لتنزيل ونقل هذه الإنجازات والتجربة الحكومية إلى المجالس الجماعية والجهوية. فيما يلي نعرض أهم الحقائق السياسية لما لم تقله الأرقام المعلنة. الحقيقة الأولى: إن الأرقام التي أعلنتها وزارة الداخلية كنتائج لاقتراع الرابع من شتنبر لاختيار عمداء المدن ورؤساء الجماعات الحضرية والقروية ورؤساء الجهات، أعطت حزب الأصالة والمعاصرة المرتبة الأولى ب 6655 مقعد، متبوع بحزب الاستقلال ب 5106، ثم حزب العدالة والتنمية ب 5021. غير أن هذا الترتيب مرتبط أساسا بعدد المقاعد المحصل عليها، الأمر الذي لا يعكس القيمة والمرتبة الحقيقية التي يستحقها كل حزب، وذلك لما يمثله مؤشر "عدد المقاعد المحصل عليها" من لبس وتدليس لمن لا يتوفر على الأرقام الكافية والمعطيات الوطنية. وحسب المحللين السياسيين والمتتبعين للشأن العام، فإن المعيار الأساسي الذي يترجم الترتيب والنتائج الحقيقية للانتخابات هو "عدد الأصوات المحصل عليها". وعليه وباعتماد هذا المقياس فإن حزب العدالة والتنمية هو المتصدر والفائز بهذه الاستحقاقات ب مليون و559 ألف و800 صوت، يليه حزب الأصالة والمعاصرة ب مليون و333 ألف و500 صوت، ثم حزب الاستقلال ب مليون و70 ألف صوت.إضافة إلى هذا تضاعفت مقاعد حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الجماعية ثلاث مرات حيث انتقلت من 1513 سنة 2009 إلى 5021 سنة 2015. الحقيقة الثانية: باعتبار العملية الانتخابية معادلة تفاضلية تحتوي على عدة متغيرات مختلفة وغير مرتبطة فيما بينها، فإن التحليل المتأني والعميق للأرقام والمقاعد مهم وحاسم لسبر أغوار هذه الاستحقاقات: المعطى الأول، يُبين توزيع الناخبين في اللوائح الانتخابية حسب اخر معطيات وزارة الداخلية، أن 45% من المسجلين يوجدون بالمجال القروي بينما 55 % من الكتلة الناخبة تتواجد بالمجال الحضري. المعطى الثاني، خُصص للمجال القروي 24000 مقعد، في حين خصصت للمدن، حيث التواجد المكثف للطبقة المتوسطة، والنشاط الاقتصادي والسياسة والثقافة ومظاهر الحداثة والتقدم، 6700 مقعد. وبعملية حسابية بسيطة لمعدل الترجيح والتناسب بين المعطى الأول والثاني، سوف نجد أن الحصول على مقعد واحد في المجال الحضري يماثله الحصول على 4.4 مقاعد في المجال القروي)أخذا بعين الاعتبار 24000مقعد في 45% من الكتلة الناخبة و6700مقعد في 55%منها (، هذا دون احتساب نسبة تغطية الأحزاب. هذه النتيجة تظهر بعض أوجه قصور نمط الاقتراع المغربي الذي يعطي المرتبة الثالثة للحزب الأول، وتوضح بجلاء ما وراء الأرقام العادية المعلنة وتؤكد الفوز الانتخابي الباهر والمستحق لحزب العدالة والتنمية الذي تصدر المدن في نمط جد صعب وظروف تنافسية عسيرة حيث التصويت يكون سياسيا وعلى البرامج الانتخابية وعلى الحزب، وإذا ما فشل هذا الأخير، تحولت هذه المدن إلى مقبرة كبيرة لشعبيته، على عكس البوادي حيث قواعد العملية الانتخابية مختلفة وغير مرتبطة بهذه العوامل والقيود، ولها أعرافها وتقاليدها الراسخة حيث القبلية والجاه والنفوذ والأعيان وأمور أخرى الكل يعرفها. الحقيقة الثالثة: بفضل تنظيم وديمقراطية حزب العدالة والتنمية الداخلية الراقية، والحس النضالي المستميت لكافة أعضاءه، ونظافة أيديهم وقوة أدائهم ، وتجاربه الناجحة في تدبير الشأن المحلي، وتواصله الدائم والمستمر مع المواطنين، إضافة إلى الأداء الناجح والباهر للحكومة ورئيسها الأستاذ عبد الإله بنكيران، وغياب أحزاب المعارضة وضعف قيادتها، استطاع أن يكتسح غالبية المدن الكبيرة والعريقة والإستراتيجية وبأغلبية مطلقة ومريحة، كطنجة والدار البيضاء وفاس والقنيطرة وتمارة وسلا والرباط ومكناس والراشيدية ومراكش وأكادير والعرائش وتارودانت وإنزكان والشاون. كما جاء في المرتبة الأولى في أهم المدن الأخرى المتبقية، كتطوان والداخلة وصفرو والخميسات واللائحة طويلة. الأمر الذي سيمكن الأغلبية من تسيير وتدبير80% من ميزانيات الجهات والجماعات في المغرب. علاوة على هذا النصر الانتخابي، هناك نصر سياسي أخر حققه حزب المصباح، حيث أزاح وأطاح ببعض رموز المعارضة وبعض أمناءها العامون، وعلى رأسهم شباط والباكوري وساجد وفؤاد العماري وبنشماش والقباج والمنصوري فاطمة الزهراء وهذه اللائحة هي الأخرى طويلة. بهذا التحليل الهادئ والمتأني والعميق، يتضح جليا الفوز الانتخابي المستحق والنصر السياسي المتميز الذي حققه حزب العدالة والتنمية والذي اعتبره المحللون السياسيون نبوغ واستثناء في تاريخ الانتخابات بالمغرب. لكن الأهم من هذا، هو حجم الرسائل القوية التي بعثتها هذه الاستحقاقات للخارج، والتي مفادها أن المملكة بلد مستقر يسير بخطى ثابتة في الاتجاه الصحيح، من أجل استكمال بناء مغرب الديمقراطية والأمن والاستقرار والوحدة والتقدم والعدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة.