أكيد آن المتتبع للشأن السوري والاقتتال الدائر بين النظام والثوار، لما يزيد عن سنتين، وما رافق ذلك من مواقف وردود أفعال، يلاحظ أن الأمور لا تتطور إلا إلى الأسوأ، وماضية نحو مزيد من التعقيد والتشبيك والتدويل. ولعل الخطير في كل هذا هو انتصار النزعة الطائفية والنظرة المذهبية الضيقة التي راهن عليها النظام السوري منذ بداية الصراع ليبرر مجازره ضد شعبه،وليوهم المجتمع الدولي بأن الصراع صراع طائفي بين سنة وشيعة وليس بين نظام ظالم مستبد طاغي, وشعب مظلوم مقهور مستضعف. انتصار أكدته إيران ورسخه حزب الله وزكاه بيان مؤتمر القاهرة، بعد ابتلاع الطعم والانسياق وراء ردود أفعال مبنية على العاطفة والطائفية، أكثر منه على العقل وروح الشرع الداعي للحوار والإصلاح والتجميع بين أطراف الأمة الإسلامية المتصارعة، قبل الدعوة لأي قتال. الظاهر أن علماءنا الأجلاء في غمرة هذا الحماس العاطفي قد وقعوا في فخ التحريض المذهبي والطائفي الذي لن يؤدي إلا إلى إثارة النعرة الجاهلية و تكثيف الآتار الكارتية على المنطقة وعلى البلاد الإسلامية أجمع لتكون إسرائيل ومن يدور في فلكها المستفيد الأكبر، بعد النجاح في تحويل الصراع من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع سني شيعي. والمثير للانتباه أن الآيات والأحاديث النبوية التي بنى عليها البيان تبريراته اقرب إلى الكفار والمشركين منه إلى طائفة من المسلمين، فهل نفهم من هذا أن علماءنا يعتبرون الشيعة كفرة؟ للأسف هذا ما أكدته مجمل تدخلات المشاركين، فكيف يتم تكفير طائفة تشهد بوحدانية الله ونبوة رسول الله؟ وهل غاب على علمائنا ومشايخنا الأحاديث النبوية الكثيرة التي تنهى عن تكفير أو قتل امرئ يشهد، بان لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإن قالها خوفا ورهبا بله أن يكون نظاما ينطلق من مرجعية إسلامية وإن كنا نختلف معه؟ كان أولى بعلمائنا، عندما قرروا التدخل أخيرا، أن يرجعوا إلى الآيات والأحاديث الضابطة لكل خلاف أو صراع أو اقتتال قد يقع بين المسلمين. يقول الله تعالى في محكم تنزيله : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين 9 إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون 10) سورة الحجرات. وأول ما يستخلص من هاتين الآيتين الكريمتين أن اقتتال طائفتين من المسلمين لا ينزع عن إحداهما صفة الإيمان ويثبتها للأخرى، وجوب السعي والسرعة في الإصلاح بينهما من طرف القيادة المؤمنة، ثم ضرورة القتال بجانب الطائفة المظلومة ضد الطائفة الباغية، حتى إذا فاءت إلى أمر الله وجب الرجوع لأصل الإصلاح بين الطائفتين مع ضرورة العدل والقسط فيه كي لا يعاد إنتاج البغي لتعود الآية إلى التأكيد مرة أخرى على أخوة المؤمنين وواجب الإصلاح بينهم والالتزام بالتقوى. يقول الإمام الشوكاني في فتح القدير في معرض تفسيره: (...والمعنى أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم ويدعوهم إلى حكم الله، فإن حصل بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه، كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله. ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم وتؤدي ما يجب عليها للأخرى...) فهل تم تحقيق مقاصد هذه الآية؟ بالتأكيد لا، وسواء حسم الصراع لصالح النظام أو لصالح الثوار، سيعاد إنتاج الظلم والبغي بسبب هذا البغض الطائفي ليبقى المتضرر الأكبر؛ الشعوب الإسلامية وصورة الإسلام. ومما يؤاخذ كذلك على هذا المؤتمر انه تعجل البيان، ولم يشرك العلماء المتخصصين في السياسة والدراسات الجيواستراتجية والمستقبلية... ومختلف العلوم والتخصصات الضرورية في مثل هذه الحالات التي تغيب تفاصيلها وبواطنها و مآلاتها عن علماء الشريعة. وهنا يظهر أهمية الاجتهاد الجماعي في هذا العصر الذي لم تعد معه اجتهادات وفتاوى الفقهاء والمشايخ كافية نظرا لتشعب التخصصات وتعقد الواقع والوقائع. إن العلماء بهذا البيان (الفتوى) ربما يكررون تجربة الجهاد في أفغانستان؛ لنكتشف في الأخير أننا كنا مجرد أداة مسخرة لتصفية حسابات القوى العظمى، وليكون مصير المجاهدين بحسن النية السجون والتعذيب وليستغلوا مرة أخرى كورقة ضغط على بلدانهم باسم الإرهاب أو أي اسم آخر يتم إنتاجه ليلائم المرحلة. وبذلك نلدغ من الجحر أكثر من مرة. هي فتنة سقط فيها السنة والشيعة، ويبدو أن الأحداث الأخيرة ذات البعد الطائفي التي تشهدها العديد من البلاد الإسلامية آخرها مقتل القيادي الشيعي بمصر؛ حسن شحاتة، تكشف أننا مقبلون على أيام صعبة سيختلط فيها الأمر على كثير من المسلمين وستخلق لديهم التباسا شرعيا وفتنة نفسية واجتماعية إن لم يسارع عقلاء وحكماء الأمة سنة وشيعة لتدارك الأمر، والبحث عن حل بعيد عن كل ما من شأنه تغذية هذا الحقد الطائفي.