( إنما التغيير تغير في السلوك.. و إنما الإصلاح صيانة للنفوس..) من خلال متابعتنا اليومية للتدافع القائم في مجتمعنا ، داخل حلبة الصراع التاريخي بين الخير و الشر ، نلاحظ غياب مجموعة من المحددات و الخصائص التي تحكم فلسفة التغيير و سنن الإصلاح عند سالكي هذا الدرب، ما جعلهم يتخذون أشكالا فاسدة و أدوات عاطلة في تدافعهم اليومي، حالت دون وصولهم للهدف المنشود ، ودفعهم إلى فقدان الأمل في بناء الصرح الحضاري المنتظر، و أدى الى توليد رغبة تدميرية لديهم ، حملتهم الى تحطيم كل ما يحيط بهم ... حتى تلك المساعي النبيلة لبعض أبناء هذه الأمة البررة ، و المتمثلة في قيامهم بمحاولات للإصلاح و الصيانة في مجتمعاتهم ، ظنا منهم بعدم جدوى ما يفعلون.. و باستحالة عيش ذلك الجنين الذي يحملون.. فوقعوا في أسر ما اسماه فيلسوف الحضارة مالك بن نبي رحمه الله معامل القابلية للاستعمار°1، هذا المعامل الذي نربيه بأيدينا ونحميه بأنفسنا ليجعلنا وسيلة مجانية للاستعمال و أداة مسخرة للاستغلال... إن غياب هذه المحددات تحتم علينا العودة لقراءة التاريخ البشري قراءة منهجية، و قراءة القران الكريم قراءة استنباطية ، لاستخلاص المبادئ المؤطرة لمفهوم الإصلاح ، فما هي إذن أهم هذه المبادئ ؟ و ما هي طريقة تفعلها ؟؟ إن اعتمادنا على قراءة منهجية لتاريخ البشرية و القران الكريم سيوصلنا الى نتائج هامة : أولى نتائج تلك القراءة: فشل الإصلاح ما لم ينطلق من تغيير النفوس، الأمر الذي يتجلى بشكل واضح وجلي في قول الله تعالى في كتابه العزيز: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " سورة الرعد الآية 11. إن فعل التغيير من خلال هذه الآية الكريمة هو فعل إلهي مشروط بصلاح نفوس الأفراد، وهو معطى نفسي له انعكاسات في الواقع. فإيمان الفرد مثلا بمراقبة الله عز و جل له يدفعه للتعفف عن الحرام، الأمر الذي يخلص بدن الأمة من مجموعة من الأورام ( الرشوة، الغش، النهب... ) التي أثقلت كاهلها ، الى حد أصبحت فيه معاني الصدق و الوفاء و غيرها شيء غير معهود و شيء غير طبيعي . فلكمال عدل الله سبحانه ، وكمال حكمته، لا يغير ما بقوم من خير إلى شر أو من شر إلى خير، ومن رخاء إلى شدة أو من شدة إلى رخاء حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا كانوا في صلاح واستقامة ثم غيروا غيِّر عليهم بالعقوبات والنكبات والشدائد والجدب والقحط والتفرق وغير هذا من أنواع العقوبات، "جَزَاء وِفَاقًا"[النبأ: 26]، وقد يملي لهم سبحانه ويمهلهم ويستدرجهم لعلهم يرجعون، ثم يؤخذون على حين غرة. و هذه النتيجة توصلنا هي الأخرى الى نتيجة حتمية ثانية، مفادها أن الإصلاح لا يبدأ من فوق إنما ينطلق من عمق البنية التحتية الثقافية للمجتمع أو ما يسمى نظام الأفكار،بحيث يتشكل في التراكيب العميقة ضمن البيئة الاجتماعية، بتغيير المفاهيم الاجتماعية العقيمة وأفكار الحفريات التي كونت التضاريس العقلية وتحولاتها الكبرى، و هذا نفسه ما أشار إليه المفكر عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد الذي أصدره منذ ما يزيد عن ثمانين سنة ، فقد خلص فيه الى أن التغيير لا يتم و لا جدوى له بتغيير الحكام ، و السبب هو أن الشريحة الجديد في المجتمع سوف تخلف الشريحة القديمة و ستتصرف كالسابقة ، ما لم يتغير النظام الأساسي في بناء المجتمع ، و هذا نجده حاضرا بشكل قوي في مجتمعاتنا ، فرغم خروج المستعمر من بلداننا منذ ما يزيد عن نصف قرن لم نبرح أماكننا بعد، بل لازلنا نتصرف كما لو أن المستعمر لازال بكل قوته بيننا، إنه في الحقيقة خرج بجحافله و آلياته المادية و قبع داخل قلوبنا بأدواته النفسية ، فجعل يحركنا و يسيرنا كما لو كنا دمى و العاب ليس إلا. و إننا إذا ما عدنا الى تجربة الرسول صلى الله عليه و سلم سنجده قد ركز على هذا الأمر،فقد سعى الى تغيير ثقافة المجتمع ، عن طريق إعادة تركيب بنيته التحتية ، بنشر مبادئ السلام و الحرية و العدل و الشورى، و هذا راجع لوعيه و إيمانه بمركزية الإصلاح عن طريق التقويم الثقافي ، فإيمانه بهذه الحقيقة جعله يؤمن بعدم جدوى التغيير عن طريق الملك الذي عرضته قريش عليه ، فقد أيقن بان تغيير الوضع رهين بتغير ثقافة المجتمع لا بتغير نظام حكمه . و أما ثالث تلك النتائج فمؤداه أن أي تغيير اجتماعي تبرز أمامه أربع أنظمة فكرية رئيسة واحدة منها هي السلمية و الصالحة له °2. أولى تلك الأنظمة الفكرية هي نظام الغاب ، حيث المنتصر يسيطر على المنهزم و يستبد به ، وهي مرحلة مشى فيها الجنس البشري وهو يودعها تقريبا الآن ، وقد يعترض من يقول : لا إن الوضع لم يتغير ، وهذا ينسف كل إمكانية أي تقدم و أي تطور عند الإنسان والجنس البشري عموما ، وهو تصور غير صحيح في ضوء إنجازات الجنس البشري حتى الآن ، من نظام الأممالمتحدة ومحكمة لاهاي للعدل الدولي ومنظمات حقوق الإنسان ومعاهدة جنيف لأسرى الحرب ومنظمة الهلال والصليب الأحمر الدوليين ... الخ وهذا لا يعني الكمال في الانجاز ولكنها خطوات متواضعة في طريق تحقيق الكمال الإنساني والدولة العالمية الواحدة لتأمين الخبز ودحر المجاعات واحتكار السلاح وإيقاف الحروب. و ثاني تلك النظم هي الديمقراطية الغربية التي تبيح العنف لصناعة الحكم ، من خلال ممارسته للإطاحة بالحكومات الظالمة المستبدة ، وتحرم العنف بعده ، ويصب معهم في نفس الاتجاه تيار ( الخوارج ) من التاريخ الإسلامي ، الذين لم يؤمنوا بارستقراطية الحكام ، القرشيين الذين استأثروا بالحكم ، إنما أمنوا بأحقية العبد الأسود بالرغم من كونه ينتمي للشرائح المستضعفة أن يتولى منصب الرئاسة ؛ وهذا التصور كان مستحيلاً في تلك الأيام ؛ كما آمنوا بالثورة المسلحة لتغيير الحاكم المنحرف ، وقد استنفدوا طاقتهم في الصراع مع الأمويين ، وجعلوا الدولة الأموية تنزف حتى الموت ، فسقطت كالتفاحة الناضجة ليست بأيديهم ، بل بيد العباسيين ، المجهولين المختبئين في الظلام ، وهذا نفسه ما تفعله الجماعات المسلحة في الوقت الحاضر حيث أحيت مذهب الخوارج من جديد . و ثالث تلك النظم ، طريقة الأنبياء في صناعة الحكم الشرعي؛ الحكم القائم على عدم الإكراه و عدم العنف؛ و من أهم مقومات هذه الطريقة و مميزاتها السلم و الكلمة الطيبة ، متبعين في ذلك قول الله تعالى في كتابه العزيز " اذهبا الى فرعون انه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " سورة طه الآيات42 و 43 . و قوله سبحانه في موضع اخر " و ادعوا الى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن إن ربك اعلم بمن ضل عن سبيله و هو اعلم بالمهتدين " النحل الآية 125 .فقد حرموا صناعة الحكم بالقوة المسلحة وبالعنف من خلال الانقضاض على الحكومات القائمة، حتى لو كان مجيئها إلى السلطة بالسيف وبالعنف ، فاللاشرعية لا تزال باللاشرعية ، بل بالشرعية ، والخطأ لا يزال بالخطأ، بل يُقَوَّم بالعمل الصحيح . وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه و سلم الذي غير المجتمع بالفكر و بشكل سلمي، فحين تعذر عليه صلى الله عليه و سلم اختراق مجتمع مكة والطائف ، قام بنشر دعوته في أهل يثرب التي أخذت اسم مدينة الرسول (المدينةالمنورة ) بعد ذلك ، فلم يذهب إليهم على ظهر الدبابات بانقلاب عسكري ، بل خرجوا لاستقباله في حشد ضخم ضم أهل المدينة من الرجال والنساء ، في مشاركة رائعة ، مع فرقة إنشادية ، ينشدون جميعا طلع البدر علينا ، معلنين خضوع مجتمع المدينة للفكرة الجديدة بدون سفك قطرة دم واحدة . إن هذا التحول المدهش في مجتمع المدينةالمنورة سابقاً وبهذه الطريقة السلمية ، غاب عن ذهن المسلمين منذ ذلك الوقت ، فقد عطلوا تلك السنة العظيمة من سنن الإسلام في كيفية بناء المجتمع أو معالجته حين الانحراف ، وتبخر الحكم الراشدي تحت حرارة العنف ودمويته ، وانزلق المجتمع الإسلامي إلى ليل التاريخ ، الذي لم يخرج العالم الإسلامي منه حتى اليوم ، بل و لازال يغط فيه بنوم عميق . أما رابع تلك الأنظمة الفكرية فيأتي بعد قيام الحكم الشرعي ، بحيث إذا ما أقيم الحكم على قوائم و أعمدة شرعية سمح بالجهاد المسلح للدفاع عن هذه المكتسبات، فبعد أن يبنى مجتمع "اللإكراه" و مجتمع "الحرية و المساواة و العدل و الشورى"، إذ ذاك يمكن استخدام العنف لردع من أراد أن يمس بأمنه ، بفرضه لأفكاره و معتقداته بالعنف على هذا المجتمع. إن كل ما ذكرناه آنفا هو قوانين و قواعد تحكم فعل الإصلاح وسلوك التغيير. في الختام يتجلى لنا – أخي القارئ- انه لا سبيل لنا لتضميد جراح امتنا و لملمت شتاتها و إصلاح حالها ، إلا من خلال التركيز على الإصلاح الثقافي المنطلق من تغيير البنى الفكرية التحتية ، فيجب ان لا توقفنا أخطائنا المنهجية في السير نحو الإصلاح الراشد المحقق للنهضة الشاملة . حمزة الوهابي المراجع: °1 الاستاذ مالك بن نبي " شروط النهضة ... °2 مقالة الدكتور خالص جلبي " التغيير السلمي للمجتمع و الحكم في الإسلام " من مدونته على الانترنيت °3 الأستاذ مالك بن نبي " شروط النهضة الصفحة 159 ، دار الفكر الطبعة الأولى"