تمة ازدواجية فريدة في تعامل أحزاب المعارضة مع وزارة العدل والحريات، ومع المسؤول الأول بالوزارة، برز بشكل حاد في البلاغ الأخير الذي دعت فيه هذه الأحزاب إلى استقلال النيابة العامة عن الوزارة، لدواعي سردها البلاغ، تفتقد إلى أسس متينة، وتبدو غير مقنعة، بغض النظر عن حق الأحزاب السياسية والفرق البرلمانية في امتلاك رؤى مخالفة للسياسات العمومية المتبعة وللنصوص التشريعية التي تتقدم بها الحكومة أمام البرلمان. لكن حين لا تتوانى هذه الهيئات السياسية في تصدير بلاغاتها المليئة بالاتهامات لوزير العدل بتوجيه النيابة العامة "أثناء نظرها في ملفات معروضة على القضاء، بمنطق الانتقام من المخالفين، أو الدفاع عن الموالين، في تناقض تام مع معايير العدالة، التي تقوم على النزاهة وعدم التمييز بين أطرف العملية القضائية"، كما جاء في بلاغ المعارضة، بتاريخ 9 مارس 2015، فذلك يعتبر هروبا كبيرا من الحقيقة، فمثل هذه الاتهامات الخطيرة لا يمكن أن تتحول إلى مجرد عبارات تدبج بها البلاغات لبث الروح في خطاب السياسي، أوالبحث عن أرضية صلبة لقرارات سياسية تجاه الحكومة. وإذا كانت المعارضة تتبنى هذه الاتهامات فلماذا لم تقم إلى حدود اليوم بقبول تحدي وزير العدل والحريات وإنشاء لجنة لتقصي الحقائق، للوقوف على كل ملف على حدا، وكشف الملفات التي يتدخل فيها الوزير انتصارا لهذا الطرف أو ذلك أو التي اتسمت بالانتقائية في إحالتها، ونشر تقرير نتائج اللجنة أمام الرأي العام الوطني ليقول كلمته، وهو التحدي الذي جاء على لسان الوزير مرتين في تحدي لحزبين من الأحزاب الموقعة على البلاغ المذكور؟ فحتى نسبة النواب البرلمانيين الواجب توفيرها لتشكيل لجنة لتقصي الحقائق، والتي كانت شماعة لتبريرات عديدة سابقا، أصبحت لا تتعدى ثلث أعضاء مجلس النواب وفقا للمادة 67 من الدستور، والتي تنص على أنه :" علاوة على اللجان الدائمة المشار إليها في الفقرة السابقة، يجوز أن تشكل بمبادرة من الملك، أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب، أو ثلث أعضاء مجلس المستشارين، لجان نيابية لتقصي الحقائق، يُناط بها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة، أو بتدبير المصالح أو المؤسسات والمقاولات العمومية، وإطلاع المجلس الذي شكلها على نتائج أعمالها". ومن الغريب أن يتحدث البلاغ عن تداول الرأي العام الوطني ل"انتقائية" وزير العدل والحريات أو "تدخلاته" لتوجيه النيابة العامة لترجيح كفة طرف من الأطراف، خاصة وأن الجميع يعلم من تحدث عن هذه الانتقائية، وأن الأحزاب السياسية التي كانت تطالب بالأمس وزير العدل بإحالة ملفات المجلس الأعلى للحسابات على القضاء، هي نفسها التي تؤثر على مسارات الملفات المحالة بالحديث عن الانتقائية، في تناقض تام مع حديثها عن احترام استقلال القضاء، والأغرب أن تتحدث عن الانتقائية دونما علم مسبق بطبيعة الملفات التي تتم إحالتها، والتي لا يعرفها وزير العدل والحريات نفسه. والذين يقرأون البلاغات السياسية يعرفون مغزاها ويفهمونها في سياقاتها، ذلك أن البلاغ الذي تحدث عن استقلال النيابة العامة خُتم بتخوفات لها علاقة بالاستحقاقات الانتخابية المقبلة، ما يعني أن كل الاتهامات صارت مشروعة وكل الأوراق جائزة بعد الانسحابات المتكررة للمعارضة من الحوار مع الحكومة حول هذه الاستحقاقات، حتى لو كانت هذه الأوراق من الأعيرة الخطيرة، وحتى لو كان استقلال النيابة العامة أمرا يستحيل تحقيقه عمليا قبل هذا الموعد في حال تشريعه برلمانيا. ثم يزيد الأمر تعقيدا حين تتبنى هذه الأحزاب السياسية خطابا صادرا عن بعض القضاة، دونما تثبت ووقوف على الحقائق، حين تحدث البلاغ عن" ضغط على القضاة ومؤسساتهم التمثيلية لثنيهم عن التعبير والتمسك بآراء ومواقف تخالف الآراء التي تصدر عن وزير العدل والحريات"، وهنا لابد من مساءلة هذه الأحزاب عن أي ضغط وأي ثني للقضاة عن التعبير يتحدث بلاغ أحزاب المعارضة؟ إذ من حق الرأي العام معرفة الوقائع التي تطابق ما جاء في البلاغ السياسي من ادعاءات، والوقوف على مختلف المحطات التي لم يطبق فيها القانون، خصوصا وأن حرية تعبير السادة القضاة يكفلها الدستور ويؤطرها نظامهم الأساسي. لو كان وزير العدل والحريات يتشبث ببقاء النيابة العامة تحت إشرافه، لحق لنا إيجاد تفسيرات لبلاغ أحزاب المعارضة، لكن وأن الموقف المعلن من قبل الوزير يتبنى ما ذهب إليه الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، والذي أفرز توصية بجعل النيابة العامة تحت سلطة للوكيل العام للمك بمحكمة النقض، فهذا الأمر أفرغ البلاغ المذكور من كل ما ذهب إليه من اتهامات، وهو نفس ما جاء في مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية. فما الجديد الذي حمله بلاغ المعارضة إن كانت الحكومة قد تبنت ما أفرزه الحوار الوطني وضمنته في الوثيقة / المشروع المقدم إلى البرلمان، بالطبع لا جديد غير محاولات لضبط أعضائها الداخليين، ففي حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الاصالة والمعاصرة برلمانيون بارزون ينادون ببقاء النيابة العامة تحت الاشراف المباشر لوزير العدل، لذلك يبقى بلاغ المعارضة ضد وزير العدل والحريات مجرد فقاعة إعلامية فارغة، تفتقد لأي أساس، وهروب جديد للمعارضة من مواجهة الحقيقة عبر تشكيل لجنة لتقصي الحقائق وكشف الحقيقة أمام الرأي العام.