اطلعت على مقال الأستاذ الفاضل توفيق بوعشرين المنشور بموقع "اليوم 24″ يوم الثلاثاء 27 يناير 2015، تحت عنوان "النصف الفارغ من كأس بنكيران"، وطبعا كسائر كتابات السي توفيق فإن المقال جاء كثيفا ومركبا، وما أثارني فيه بالأساس ودفعني إلى هذا التفاعل هو حكمه الواثق والجازم، وبالاطمئنان الكامل عن التراجع في ورش التنزيل الديمقراطي للدستور، وادعاؤه بكون بنكيران قد ضحى بالوثيقة الدستورية لصالح التطبيع مع القصر؛ ثم تقريره بعد ذلك في نقطة ثانية بإعادة رسم مجال عمل حكومة بنكيران واختصاصاتها بعيدا عن الوثيقة الدستورية. ولأن ما تم بسطه في المقال يعكس في الحقيقة اختلافا جوهريا في التقييم، وتباعدا جليا لزوايا النظر بين رجل الإعلام والفاعل السياسي، فقد أردت التفاعل مع ما خطه الأستاذ المحترم توفيق بوعشرين، خاصة وأن الأمر يتعلق بقضية التأويل الديموقراطي للدستور، وهو مجال تداول واسع واختلاف بين ومثار نقاش حقيقي بين مختلف الفاعلين والمهتمين، ولعل أهميته تزداد حينما يتم ربطها بتجربة حزب العدالة والتنمية، حيث يتجاوز هذا المفهوم معناه المباشر ليصل لمعنى أعمق وأدق يصيب مباشرة "منهج العمل السياسي" كما يشتغل به حزب العدالة والتنمية. فالحقيقة أن ملاحظات وانتقادات الأستاذ بوعشرين تتعلق في العمق "بنظرية العمل"، وهنا يكون التأويل والتنزيل للدستور محكوم بمقاربة أشمل وأعم من مجرد نظر في نصوص ساكنة مجردة لنص الدستور. قواعد في منهج الإصلاح بداية لا بد من التأكيد على الهوية الإصلاحية لحزب العدالة والتنمية، منشأ ومنهجا وأهدافا، فالحزب ليس حزبا ثوريا انقلابيا، والسياسة في رؤيته الإصلاحية ليست غاية مطلقة، بل هي مدخل أساسي ومهم للإصلاح، لكنها أيضا ليست كل الإصلاح، كما أنها ليست المدخل الوحيد لهذا الأخير. وبالتالي فإن السياسي النبيه والفطن المتشرب لمنهج حزب العدالة والتنمية في الإصلاح، لا ينبت عن واقعه ارتهانا لمثال قد يوجد وقد لا يوجد، قد يتحقق وقد لا يتحقق. وهو أيضا لا يلتصق بالواقع ركونا ومهادنة وتطبيعا وتبريرا له باختلالاته وانكساراته. فرؤية حزب العدالة والتنمية في الإصلاح وسط بين ذلك، لا هي بالمثالية الحالمة ولا بالواقعية المنهزمة والمبررة لكل أمر ولكل انكسار. المسألة الثانية متعلقة بلازمة متحكمة في الرؤية الإصلاحية لحزب العدالة والتنمية، وهي التدرج والمراكمة، فقناعاتنا تؤكد مرارا وتكرارا أننا لا ننطلق من عدم، ولا نبني على خراب، إنما نحن نتمم مكارم موجودة، ونتجاوز نقائص معلومة، لكن بفقه يرتب الأعمال ويرتب مقامات ودرجات الإصلاح، فما كل منكر واجب التغيير حالا، وما كل معروف واجب الإنجاز كرها وقسرا. المسألة الثالثة والأخيرة في هذا المستوى هو تجذر وتمدد ثقافة التعاون على الخير مع الغير في المنهج الإصلاحي لحزب العدالة والتنمية، وانحسار ثقافة التنازع والاختلاف مع الغير، وليس عبثا أن كان عنوان أطروحة المؤتمر الوطني السابع "شراكة فعالة من أجل البناء الديمقراطي"، فهي نتاج حوار داخلي عميق، وقناعات غالبة مؤمنة بأن الوطن كلما غلب عليه نفس التعاون والتطاوع استقر وتقدم، وكلما غلبت عليه ثقافة التنازع والتنابز والخلاف، فشل وذهبت ريحه. التأويل الديموقراطي للدستور بداية لا بد من الإشارة إلى مسألة أساسية مرتبطة بموضوع التأويل الديموقراطي للدستور، فغالبا ما يتم الحديث في هذا الأمر بإملاءات الخطابة، وإكراهات التدافع السياسي، دون الانتباه إلى أن التأويل يظل تأويلا تضبطه قواعد العلم وأصول المعرفة. ولا شك أن التأويل بإطلاق لا بد أن يراعي على الأقل ضابطين اثنين هما ضابط اللغة وضابط السياق. فلا تأويل للدستور خارج لغته بمستوياتها المعلومة معجما ونحوا وصرفا وبلاغة وأسلوبا، وأي تفلت من هذا الضابط هو تعسف يفقد التأويل أحد ركنيه الأساسيين. ولا تأويل للدستور أيضا دونما مراعاة للسياق سواء منه السياق الداخلي، أي اللغة وما يحيط بالكلمة أو الجملة داخل النص وهذا أمر هام جدا؛ لكن أهم منه اعتبار السياق الخارجي، وما يتحكم فيه من ظروف اجتماعية وتحاورية تداولية، ومن حضور أو انتفاء لمبدإ التعاون أو مبدإ الصراع بين المتكلمين، وهو ما يشير إليه الأستاذ أحمد العلوي اللساني المعروف ب"لسانيات سوء النية". فالدستور كما السياسة ليس قواعد رياضية تطبق في قاعات الأعمال التوجيهية، بحضور أستاذ موجه وطلبة منتبهين ومجتهدين، كما أنه ليس مبادئ نظرية تجري في المطلق دونما اعتبار للواقع السياسي بتشعباته وإكراهاته. بل إن الدستور وتأويلاته هو انعكاس لموازين قوى وازنة ومؤثرة في مسار البناء الديموقراطي، وهو أيضا تفاعل دائم مع مواقع النفوذ ودوائر القرار المركبة والمعقدة. الدستور هو لا شك نص معلوم ومسطور، وإلا صارت الوثيقة الدستورية حمالة أوجه بإطلاق ودونما ضوابط، وهو أمر غير متصور ولا مقبول؛ لكن الدستور أيضا هو نص منشور ومنثور يتفاعل تمددا وانكماشا مع واقع يتحرك صعودا ونزولا، ولا شك أن هذا النزول والصعود يزداد في دول الهشاشة الديموقراطية والاقتصادية والاجتماعية، ولا شك أن المغرب هو من بين تلك الدول، وهو وإن حسنت درجاته مقارنة مع باقي الدول، لكنه تحسن في الحال وليس في المقام. الملكية وإعادة رسم مجال عمل حكومة بنكيران إن جوهر النقاش المرتبط بالدستور وتأويله وتنزيله، مرتبط بتدبير العلاقة مع فاعل أساسي في الحقل السياسي المغربي، وهو الملك والمؤسسة الملكية. فالملكية تتخذ موقعا مركزيا في النسق السياسي المغربي منذ قرون، لكنها صارت أكثر حضورا وفاعلية منذ أن أرسى قواعدها الملك الراحل الحسن الثاني. وعقدة العقد لدى السياسيين المغاربة، هو تدبير هذه العلاقة، بمعادلة تحفظ للسياسيين دورهم وللملكية دورها في تكامل وانسجام ما أمكن ذلك. ولا شك أن تاريخنا المعاصر يشهد بأنه متى ارتبكت هذه العلاقة وسادها الصراع والخلاف والصدام ارتبك الوطن وتعطل مسار التنمية الشاملة، وكلما استوت العلاقة بين الملكية والفاعلين السياسيين تعاونا ما أمكن وانسجاما ما أمكن كلما استقر الوطن وتحسنت أحواله. إن هذه الخلاصة العامة تدعو إلى الانتباه إلى المهمة التاريخية لحزب العدالة والتنمية، فمنهجه ونخبه يؤهلانه للإسهام في وضع قواعد جديدة في علاقة السياسيين بالملكية، بما يمكن من القيام بالإصلاح اللازم، في توازن وتعاون وتكامل بين المؤسسات. وهذه الخصوصية هي التي تطبع علاقة بنكيران وحزب العدالة والتنمية بالملكية، حيث يحضر التقدير والاحترام الحقيقي، والاقتناع الصادق بدور الملكية ودور النخب السياسية المستقلة والمستقيمة في بناء المسار الديموقراطي والتنموي للوطن. ولعل هذه المقاربة هي ما جعلت العلاقة منسابة ومنتجة توسع دائرة المتفق حوله وتقلص من دائرة المختلف حوله. وهذه المقاربة هي وحدها الكفيلة بتفكيك بنى وثقافة الملكية التنفيذية وما راكمته من سلبيات عبر عقود، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا مع الملكية في إطار الإصلاح وما يقتضيه من توافق وعدم تنازع، وفي إطار الصلاحيات المحددة في الدستور. والخلاصة إن منهج الاشتغال الذي يجسده عبد الإله بنكيران في تدبير علاقاته مع المؤسسة الملكية وفي الحكومة والأغلبية وداخل حزب العدالة والتنمية، هو انعكاس إرادي للمقاربة الإصلاحية للحزب، وهو ما يمنح هذا الأخير هويته إصلاحية خاصة به؛ إذ لا يعقل أن يتحول الحزب إلى رجع صدى لرغبات ومناهج ومقاربات لا تعنيه، وهي إضافة إلى ذلك إما أنها غير منتجة بإطلاق، أو أنها جربت فكانت حلما تلاه غبار، أو هي بكل بساطة "نظرية عمل" تحتاج إلى من يتحمل مسؤوليته في اختبارها تجريبا لا مناولة، وهي بكل تأكيد لا علاقة لها بحزب اختار لنفسه مسارا ومنهجا. ختاما إن التنزيل الديمقراطي الحقيقي للدستور، هو ممارسة الاختصاص الكامل بالوعي اللازم، وهو حفظ مجلات وإمكانات التطوير المستمر للوطن استقرار ونماء، وإلا ما قيمة تنزيل ديموقراطي موهوم يهوي بالمكتسبات سبعين خريفا في نار الاستبداد والتحكم والفتن؛ قل سيروا في الأرض وانظروا عاقبة الحالمين والمغفلين.