عندما نتجرد قليلا من طائفيتنا وعرقيتنا لا يمكننا إلاّ أن نعجب بالجهاز الدبلوماسي الإيراني البراغماتي و نصفق له و الذي تمكن من دخول نادي الكبار،أمَّا العرب فخارج التغطية، و يزيدون تقزُّما يوماً بعد يوم ولم تعد لهم أي قيمة تذكر،حيث أصبح الشرق الأوسط "العربي" محكوم ومرهون بتوازنات استراتيجية تحدِّدُها ثلاث دول غير عربية، "إسرائيل"،إيران،وتركيا و برعايةٍ أمريكية روسية تأخذ بعين الاعتبار مصالحهما في المنطقة. عند احتلال أمريكا للعراق سنة 2003 كانت تظن أن المسألة ستكون مجرد نزهة عسكرية ستأتي بنتائجها السياسية و الاقتصادية سريعاً، وستمكنها من محاصرة النفوذ الإيراني في المنطقة، إلا أن رياح الصحراء الخليجية أتت بما لا تشتهيه السفن الأمريكية ،لتكتشف فيما بعد أنها وسط مستنقع مليء بالتماسيح والعفاريت التي أنهكت ماليتها ورفعت من نفقاتها العسكرية لتصل بها إلى مستويات خيالية، كانت المتسبب الحقيقي في أزمتها المالية التي عصفت بمجموعة من اقتصاديات الدول التي شاركتها غزو العراق كإسبانيا وإيطاليا طمعاً في غنائم بترولية لم تنعم بها إلى حدود اليوم ،وعصفت سياسيا بالحزب الجمهوري الأمريكي لتصل بباراك أوباما إلى البيت الأبيض الأمريكي حيث كان موضوع الانسحاب من العراق محوراً أساسياً لحملته الانتخابية لسنة 2008. آنذاك لم تُفَوِّت إيران الفرصة لِتُفهِم الأمريكيين وحلفائهم أن منطقة الخليج والشرق الأوسط مثل "الحمّام" فالدخول إليه ليس كالخروج منه، حيث قامت ببعثرة كل أوراقهم وحساباتهم السياسية والاقتصادية والإستراتيجية وأفهمتهم أنها أكثر ذكاءا و نفوذاً مما كانوا يتوقعون . يبدوا واضحاً اليوم أن أمريكا لم تعد قادرة على التحكم العسكري والدبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط والخليج وانحصر نفوذها، بعدما كانت تصول وتجول في المنطقة بكل حرية وتحتحل دول وتقصف أخرى،حيث أصبحت حذرة ومرتبكة في سياستها تجاه الأحداث في سوريا. استطاع الإيرانيون بدهائهم السياسي وبراغماتيتهم الدبلوماسية الإنتقال بالملفين العراقي بالأمس القريب والسوري اليوم من نقطتي ضعف، إلى عاملين أساسين داعمين لموقعها التفاوضي بخصوص قضايا النووي والحصار الاقتصادي وتصدير البترول. عندما تستقبل فرنسا المسؤولين الإيرانيين بالأحضان ويتحدث الأمريكان عن علاقات جديدة وإيجابية مع إيران، فاعلم أن الملف السوري اخذ منحا آخر وأن احتمال ضرب النظام السوري كان مجرد زوبعة في فنجان هذا من جهة، من جهة أخرى أمريكا وحلفاؤها لا يضربون الجبهات والمحاور القوية والصلبة كمحور إيران سوريا حزب الله، بل يضربون ويؤدبون الدول والكيانات المزعجة المعزولة كالعراق وأفغانستان ومالي والصومال والسودان وليبيا... الملف السوري كشف لنا بوضوح ذكاء ودهاء الإيرانيين،الذين جعلوا من هذا الملف فرصتهم لقلب الموازين الإستراتيجية في المنطقة وأصبح موقعهم التفاوضي قويا جدا ومن اليوم فصاعدا ستصبح طهران مركز التفاوض حول قضايا المنطقة والحلقة الأقوى في تحديد مستقبل الشرق الأوسط ومنطقة الخليج وأصبح الكل يعلم أن حل الملف السوري يوجد بالعاصمة الإيرانية أضف إلى ذلك الملف الفلسطيني و اللبناني والعراقي. حتى الشعب الإيراني يتمتع بوعي سياسي عميق، ويقرأ جيدا المتغيرات السياسية الدولية و يعرف متى يختار الإصلاحي ومتى يختار المحافظ كرئيس لدولته بحسب ما تقتضيه مصالحه الإستراتيجية و المرحلية. في ظل هذا الوضع الجديد وظهور مؤشرات على تشكل فسيفساء جديدة على مستوى العلاقات الدولية، يبقى العالم العربي وخصوصاً الشق الخليجي منه أكبر خاسر ،أضف إلى ذلك حصره لدوره في دعم الانقلابات وإجهاض الديموقراطيات المجاورة، وتمويل الجماعات الارهابية لإثارة العبث والفوضى في المنطقة،عوض الاهتمام ببناء دولة المؤسسات والدفع بالتنمية الإقتصادية والإجتماعية وبناء المصانع وتمويل مشاريع البحث العلمي،ولنا في الأتراك والإيرانيين والصهاينة قدوة.