لو كان في الناس خير لما احتاجوا إلى كلام غير القرآن ليتعضوا ويقتنعوا ويؤمنوا.. كيف لا وهو كلام الله؛ ومن أصدق من الله قيلا؟ لكننا في زمن ينطق فيه الرويبضة ويتبعه من عامة الناس وخاصتهم ما شاء الله أن يتبعه، وإننا في عصر يصدق فيه الكاذب ويكذب فيه الصادق. فبماذا عسى الصدق ينفع قائله إن شاء الله أن يكذبه السامعون؟ وإن الإنسان لا يهدي من أحب ولكن الله يهدي من يشاء. كيف يكون للناس في النصابين والكذابين والدجالين إسوة ويظنون أن لا ملجأ من البأساء والضراء إلا إليهم؟ إنه حالنا وواقعنا الصادم الذي لا مفر منه إلا إلى الله عز وجل، فطوبى لمن فر بنفسه ودينه إلى ربه ولم تنسه زهرة الحياة الدنيا آخرته ولم يمت إلا وهو مؤمن. و المؤمن، يا أهل الإسلام، لا يلدغ من الجحر مرتين.. وسياق هذا التذكير ما يعيشه عالمنا الإسلامي، في بداية القرن الواحد والعشرين، من أحداث سياسية عبر أقطاره المتباعدة والتي من شأنها أن تأزم أوضاع البلدان الإسلامية وتقزم دورها في المنطقة كلها. لقد رأينا كيف أن الشعوب العربية ثارت على أنظمة الإستبداد وأسقطت حكاما طغوا في البلاد وأفسدوا حياة العباد طيلة عقود من الزمن. وشاهدنا كيف تهافتت الجماهير على ساحات التحرير واعتصمت واحتجت ورابطت حتى بلغت المراد. وبعد التحرير المنشود ونشوته والنصر المشهود ونخوته كانت الجماهير على موعد مع الديمقراطية في مكاتب التصويت وعبر صناديق الإقتراع الشفافة. وهكذا أفرزت خريطة سياسية جديدة بمعطيات محلية جديدة. إن أمة الإسلام مستهدفة يا حماة الملة والدين، والدليل على ذلكم أن الأمم تداعت عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. فلم يذكرني الربيع العربي الذي أزهر في قرننا الحالي إلا بالخريف العثماني الذي أسقط الخلافة الإسلامية في القرن الماضي. وكلنا يعلم سقوطها وكيف تم التخطيط له بالدسائس والمؤامرات من باب "فرق تسود". كانت تلكم بداية مسلسل التقسيم بين مكونات الأمة، فبدأوا ببث النعرات العرقية بين الأتراك العثمانيين والعرب فانشطرت الدولة الإسلامية. بعدها أدخلوا النزعة الإقليمية بين مصر وسوريا ومازالوا يفتتون المنطقة حتى تفرقت الأمصار وتفردت الأقطار. هكذا رسمت خريطة جغرافية جديدة في سياق جديد. هاهنا لدغنا من الجحر مرة، وبعد الإنتداب والحماية، دفعنا أثمنة غالية كان أغلاها احتلال فلسطين. اليوم لا يسعنا إلا أن نثني على إسقاط الطواغيت والمستبدين، لكن هناك أمور قد لا تتضح إلا باستقراء التاريخ واستنباط الدروس والعبر واستشارة المتخصصين. فلا نريد أن نلدغ من نفس الجحر مرتين ويأتي علينا يوم يعيد فيه التاريخ نفسه ولا نزداد إلا وهنا وضعفا وتفرقا. فهل سنتعض مما حدث لأمتنا بداية القرن الماضي؟ أم هل سنكون لقمة سائغة أمام أطماع الوحوش الناعمة التي تتربص بأمة الإسلام؟ ربيعنا لا يجب أن يركبه الأعداء ليزيدوا الأمة ضعفا وتفتيتا. إنها غايتهم وأعز ما يطلبون. انظروا كيف لم تسلم تركيا من موجة "فوضاهم الخلاقة"؛ ولا تستغربوا أن العرب المقهورين ثاروا على الظلم والبؤس في ساحات التحرير وتحرروا؛ ولا تستبعدوا أن يثور الأتراك الغاضبين على العدالة والتنمية في ساحة التقسيم ويقسموا.