يدخل ما سمي بالحراك في الريف، مرحلة خطرة، بعد حملة الاعتقالات والمتابعات، وهي ما ينذر بتصعيد لا يمكن التكهن بمساراته في ظرفية مضطربة ومشحونة. لم تكن وفاة المرحوم محسن فكري إلا القطرة التي أفاضت الكأس، وكان الوضع بالريف لمن يعرفه ويتابع شؤونه، يموج رغم ما أقدمت عليه الدولة من مجهودات ملموسة، من خلال الاشتغال على البنيات والأشياء، دون الإنسان، ومنها خياراته. أتت الإدارة بتصور جاهز، ونخب جاهزة، وهو ما كان يُغيض نخبا ذات مسار تاريخي ونضالي، في المغرب والمهجر، آمنت بالمصالحة، وأدركت فحوى ما أقدمت عليه الدولة في فجر ما سمي بالعهد الجديد..ولم تفهم التخرصات التي أقدمت عليها، بعدئذ، من خلال تنصيب وصي أو أمين عليها. كان ذلك يجري في أحاديث خاصة وقد تم تسييج الساحة العامة. غداة وفاة الفقيد كريم لشكر إثر ملاحقة الأمن له، تكلم عمه امحمد وهو من يحمل مسارا سياسيا غنيا، في حديث لم يتم الانتباه له، حين قال إن المشكل يبقى في طريقة التعامل مع ساكنة الريف..ولم يتم التقاط الإشارة، لأنْ كان للدولة تصورها الذي يقوم على مفتاح (الباص پاسسي ) الذي من شأنه أن يفتح كل الأبواب..ولا حاجة لحمل رزمة من المفاتيح، لكل باب مفتاحها..كان ذلك هو التصور القديم للمخزن، ولم يزد سوى أن غيّر “باص” ب “باص.” ما لم يدركه بعض أصحاب القرار، هو أن التفضل بموقع ووضع على شخص أو أشخاص، يزري بمن لهم مسار ورصيد وشرعية. قد يتوارون أمام اختلال موازين القوى، ثم يبرزون حين يتغير الوضع..من يُلام ؟ من أٌجهز عليه، وأُزري به، ويظهر بعد كمون، ويدافع عن قضايا مشروعة أم من دفع بالإمّعات الذين يتاجرون بالقضايا المشروعة ؟ هو ذا جزء من المشكل، ولو أن المشكل أبعد مدى من أن يحصر في الريف، بل هو منظومة عمل. وكيف لمن هو جزء من المشكل أن ينتصب عنصرا للحل ؟ ولقد سبق لشيوخ قبائل ولاد الدليم وقد حل المرحوم الحسن الثاني بالداخلة بتاريخ 4 مارس 1980، لحفل الولاء، أن قالوا له مما يتناقله الناس في الصحراء : لا تْعودوا تديروا تاسسويت علينا، جيبوا تاسسويت نتاعكم (لا تنصبوا علينا حثالة القوم منا، ولكن إن وكان ولا بد، فلتأتوا بحثالتكم). التمرد والغضب والاحتجاج، ليس تصرفا فطريا أو طبيعيا عند الأفراد والجماعات، وهي لا تخرج لذلك إلا إذا دُفعت لذلك حين يكون حجم الضر قد أثقل عليها، أو بلغة العصر تجاوز عتبة المسموح به. من السهل الإلقاء بالتعلّة على الغاضبين، ونعتهم بالغوغائين وأصحاب الفتنة، ومن السهل تبخيسهم، والزعم أنهم شرذمة تُغذي الكراهية وتدعو للعنف، وتروم الانفصال..ولكن حبل الكذب قصير كما يقال. “الشرذمة” تستند على مد جماهيري، وعلى تعاطف وطني ودولي، وما يسمي بخطاب الكراهية تخرصٌ، يُخلط قصدا بمواقف سياسية، والانفصال، وليسمحْ لنا الفقيه النِّحرير خالد الناصري أن نمتح من قاموسه المُرصّع، خرافة.. الوضع في الريف يقوم على معطيات موضوعية، ولا يمكن خلط الأعراض بالأسباب. استعصى على “ممرضي” الإدارة وهم يُقدمون مختلف المراهم والمسكنات، واستعصى لأنه استفحل، واستفحل لأن للإدارة يدا في الاستفحال. ما نريده هو مخرج، لأن الوضع دقيق، في ظرفية مضطربة. لا بد من حوار جاد، ولا يمكن للحوار أن يتم إلا في وضعية هادئة. وأول الأشياء إطلاق سراح الموقوفين ورفع المتابعات.. الموقوفون لهم مطالب اجتماعية، ومواقف سياسية، وليسوا مجرمين اقترفوا جنايات. نعم قد يتم تكييف أفعال وفق منظور سياسي أو أمني، وليس القانون صنو العدالة، بل أبشع الظلم هو ما يرتكب باسم “القانون”. أما فيما يخص عرقلة العبادة فهي تحتمل قراأت متعددة، إذ هل الرأي عرقلة، وهل يحق للمسجد أن يكون صدى سياسي لطيف دون طيف ؟ وما سند الحديث “إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت “..أليس ذلك من مأساة الإسلام تدجين المسلمين مما اختلقه الطلقاء ليجعلوا الدين الحنيف تحت الحِّجر ؟ أليس إغلاق المساجد عقب الصلاة، عرقلة للعبادة، لأن العبادة ليست مقصورة على الصلوات ؟ ما العيب أن يقال إن الدولة أخطأت في خياراتها النيوليبرالية التي خلقت الفقاقيع، وتبدت سوآتها مع سلسلة الخوصصات الفطيرة، وتسليم الأراضي لنصابين ومافيات معروفة، من مناطق معروفة، وهل فضيحة دله بركة بتاغزوت قرب أكادير ببعيد ؟ ما العيب أن يُعلى من شأن الشعب ؟ وما مصدر الشرعية في الدولة الحديثة إلا من الشعب، فكيف نتأذى من ذلك ونحن نزعم أننا مجتمع حداثي ديمقراطي. ما العيب أن يُفخر بعبد الكريم الخطابي، الذي كان ثاني اثنين ممن حمل لقب غازي، وهو أعلى لقب لمن حمل راية الإسلام، حملها أول من حملها، باديء الأمر مصطفى كمال حين حرر تركيا من قبضة الإنجليز عقب الحرب العالمية الأولى، وبعده عبد الكريم الخطابي. ما العيب أن يحمل شباب الريف وعيهم التاريخي، وإيمانهم في المصير المشترك مع أخوتهم من شمال افريقيا ؟ أليس هذا ما استشهد من أجله المجاهدون منذ ملحمة الأمير عبد القادر، حين سقت دماء قبائل بني يزناسن و كبدانة وقلاعة وآيت ورياغل، وغيرها، معركته ضد المستعمر، ثم أثناء حرب التحرير ؟ فهل يليق بالأحفاد أن يخيسوا برسالة الأجداد ؟ هي أفكار مزعجة، توارت لفترة، وكان لزاما أن تبرز، لأن الأفكار مثل البذور تغور في بطن الأرض ثم ما تلبث أن تتفتق. والحكمة هو مسايرة هذا المد الذي لا محيد عنه، بالتي هي أحسن، و ذلك ما نبتغي. وإلا فالأخرى….سيتحقق معها ما يندرج في مسلسل التاريخ، ولكن بثمن غال.. وهو ما لا نريد.