عندما تحدث أخونا ذ. عبد الإله بنكيران -أعانه الله على ما هو فيه- عن أن جماعة العدل والإحسان ليس لها إلا خيارات ثلاث .. إما المشاركة السياسية وإما الدخول في صراع مع السلطة وإما الاستمرار في الخروج إلى الشارع بأعداد كبيرة "لاستعراض كبرها وقوتها كلما دعت الضرورة إلى ذلك" لفتت انتباهي نبرةٌ فيها نوعٌ من الجبرية أو الحتمية المُغمّاة أحببتُ أن ألفت النظر إلى ما أراه من وجوه النقص في بعض جوانبها والمغالاة في أخرى.. وبغض النظر عما يمكن أن يكون لدى متابع شأن الإخوان في جماعة العدل والإحسان من ملاحظات عليهم واستدراكات (فهم في نهاية الأمر تجربة بشرية يعتورها من النقص والخلل ما يلزم كل تجربة بشرية كائنة ما كانت وكائنا من كان أصحابها) .. وبغض النظر عمّا يكون موقفنا منهم وما يكون موقفهم من هذا القول وما يكون من أمرهم في مستقبل الزمان .. بغض النظر عن كل ذلك .. فقد لفت انتباهي وجود قناعة نحتاج إلى مكافحتها -أولنقل مجاوزتها- ونحن نستشرف وعيا حركيا جديدا .. أعني القناعةَ بحتمية المشاركة السياسية بمعناها الحزبي الخاص وضرورتها لكل فاعل اجتماعي وجعلها علامة فارقة على نجح المسعى وانفتاح الأفق وفاعلية مشروع اجتماعي ما .. ولقد رأينا كيف يمكن أن تكون المشاركة السياسية بهذا المعنى (أي المشاركة السياسية الحزبية) سِدادة للآفاق وموصلة إلى مضايق ومآزق لا تبقي لأصحابها غيرَ أحد طريقين : طريق المخازي المنبطح بدعوى "الواقعية" ولكنها تكون واقعية متأخِّرَةً مُبْتَذَلَة أو طريق المآسي الفادح التزاما ب"مبدئية" قد تكون مبدئية متمأزِّمة أو مرْتَجَلَة (والحال المصري شهيد على ذلك) .. وكيف قد تكون متاهةً تكاد تودي بمشروع اجتماعي نهضوي يتجاوز خصوصيات الظَّرفيات والمُدَدِ السياسية إلى كليات المراحل والاستحقاقات الحضارية للأمة .. فإذا جاز أن لا يلام السياسي (بالمعنى الخاص للممارس السياسي) على ركوبه هذه المراكب على اعتبار أن لا مندوحة له عنها وأنها السياسةُ وإكراهاتُها، وأنَّ أمر السياسة يقتضي نفيرا مثل النفير الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تبارك وتعالى : "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة" الآية.. لئن جاز له هذا لم يَجُزْ لغيره مِمَّن يمارس العمل الدعوي والتربوي او لنقل الاجتماعي (بمعناه السوسيولوجي لا بمعناه الخيري) ولم يجز لغيره ممَّن يمارس العمل السياسي بمعناه العام أي الذي ينظر في أمر السياسة متدافعا في ميادين الفكر والنظر، وميادين الحقوق والحريات، وميادين التعبئة والتأطير.. فلا يمكن أن يقنعنا سياسيٌّ مهما علا شأنه بأن السياسة لا تمارس إلا في الأحزاب، وأن الأحزاب لا تمارسها إلا من خلال مشاركتها في الانتخابات، وأن القرارت لا تصنع إلا في البرلمان، وأن البرلمان لا يلتفت إلا لرأي من فيه من أغلبية أو معارضة .. لأنه إذا كان هذا غيرَ مُتَحَصل عندَ أهله ممن صاغوا هذه النماذج وبنوا على آساسها ديموقراطياتٍ محترمة (حيث المجتمع المدني بشتى فعالياته عندهم شريك أساسي يساهم في بناء التصورات السياسية وبالتالي التوجهات والقرارات) فكيف يتحصل هذا عندنا ونحن نرى ونشاهد ونقرأ ونَعِي كيف وأين تُصنع عندنا أهم القرارات؟ وكيف تتألف القوى؟ وما هي المساحات المتاحة للمشاركين في "اللعبة الديموقراطية" أغلبية ومعارضة؟ .. إن أبناء جمعية الجماعة الإسلامية التي صارت فيما بعد حركة الإصلاح والتجديد أو أبناء رابطة المستقبل الإسلامي وهما الرافدان التاريخيان لحركة التوحيد والإصلاح -والتي منها ينحدر الكثيرُ الأغلبُ من أعضاء حزب العدالة والتنمية وكلُّ وزراء الحزب اليوم والذين هم وبلا استثناء خرِّيجُو محاضن هذه المؤسسة التربوية الدعوية- قلتُ، إن أبناء هذه التجربة في العمل الإسلامي لم يكونوا إلا نتاجا لهذه المقاربة التي تُوَسِّعُ من مفهوم العمل السياسي، وترى إمكانيةً لفعل قوي وعميق وفارق من خارج المعترك السياسي .. بل إنهم وهم يوالون خطواتهم الأولى في العمل السياسي سواء في 1992 مع تقديم أوراق حزب التجديد الوطني "الموؤود"، أو وَهُمْ يفاوضون حزب الاستقلال في أوائل التسعينات، أو وَهُم يعيدون بناء حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية الذي سيغير إسمه فيما بعد إلى حزب العدالة والتنمية .. قلتُ، وهم يخطون هذه الخطوات الأولى لم يكن لهم ما يميزهم ويرفع من شأنهم مع حداثة تجربتهم في المجال السياسي الحزبي إلا مستواهم في المجال الحركي والدعوي والتدافع في المجال السياسي غير الحزبي أي المجال السياسي العام .. إن أخطر ما في هذه القناعات -التي لا ترى أفقا للتغيير ولا محكا لنجاح معتبر إلا بالدخول في غمار "اللعبة السياسية"- أنها تضع البيضَ كلَّه في سلة السياسة .. فيوشك السياسي (خصوصا إذا كان في التسيير) أن يلقي بظلاله مشوشا في الغالب (ولا ننكر أنه قد يكون مفيدا) على الرسالة الكبرى للعمل الدعوي الذي يتوخى العودة بالناس إلى دينها والعمل الحركي الذي يتوخى استعادة الأمة للمبادرة بين الأمم فكريا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا .. فنجد العمدة السّيء أو الضعيف أو على الأقل المُخْتَلَف بشأنه في مدينة ما مُلْقِياً بظلاله على العمل الحركي والدعوي والثقافي فيها ما دام محسوبا على هذا العمل، والبرلماني الكسول أو "الغَمّاق" ملقيا بظلاله هو الآخر وهكذا إلى أعلى المناصب التي يمكن الوصول إليها .. إن الاختلافَ باقٍ ومستمِرٌّ مهما فصلنا العمل الحركي الدعوي عن العمل السياسي الحزبي ما داما يقتسمان الرؤى والمشارب والأهداف الكبرى، ولكن شتّان بين مختلفٍ معكَ على أساس الفكرة والقناعة ومختلفٍ معكَ على أساس الشخص والمصلحة .. فالأولى للدعوة والثانية للسياسة .. إننا لا نقول بأن سوق السياسة كلها سوء وشر، فإلى جانب ما ذكرنا نجد الرئيس الصالح المسدد و العمدة الجيد المنفتح والبرلماني الصادق المعانق لمشاكل الناس وهمومهم، وهذا ولله الحمد أغلب حال أصحابنا في العدالة والتنمية إلى حدّ الآن .. غير أن المثل المغربي يقول "حوتة واحدة تخنز الشّواري" والمثل العالمي يقول "الناس يكتبون الفعل الحسن على الماء وينقشون السيء على النحاس" والسياسة مهما بلغ صلاح أصحابها مزالقُ بالفعل أو بالقوة .. أمرٌ لا سبيل إلى إنكاره أو تجاهله إلا أن يكون هروبٌ إلى الأمام حتى يُفاجَأَ صاحبُه بالنبإ اليقين .. لستُ مُخَوَّلاً للدفاع عن جماعة العدل والإحسان وإن كنتُ لأراقِبُ نشاطهم بكثير من الإعجابِ الذي لا يَذْهَلُ عن النقد، والوعيِ بالاختلاف الَّذي لا يَغْفُلُ عن العرفان بما يساهمون في تقديمه للبلد من صنوف الخير استنقاذا للشباب من ضياع البوصلة في الحياة، والغفلة عن الله، وإعطاء أملٍ للناس يجتمعون عليه وغايةٍ يسعون إليها وهمةٍ تَنْشَط للمعالي إذ يتضافر جُلّ ما في إعلامنا ومدارسنا وثقافتنا الشعبية والرسمية على النزول بهذه الهمم إلى قاع "خبزيةٍ" لا تليق بأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .. قلتُ، لستُ ههنا للدفاع عن الإخوان في جماعة العدل والإحسان، ولكني معنيٌّ غايةً بالدفاع عن فكرة التدافع الاجتماعي بمعناه العام على اعتبار أن كلَّ فاعل مدني هو فاعل سياسي بشكل من الأشكال، وأن المشاركة السياسية لا تعني فقط الدخول في الانتخابات والرضى بقواعد لعبة وضعها واضعوها بشكل انفرادي وحدَّدوا لها معالمها ورسموا لها حدودها وقالوا لك أنتَ مُخَيَّرٌ في داخل حَيِّزِها، مُسيَّر في رسوم هذا الحيز وحدوده .. وإذا كنا قد وطّنا أنفسنا تنظيرا وتأطيرا على امتداد سنوات للقَبول بهذا الأمر فهو يبقى قراءة إلى جانب قراءات لكل واحدة وجاهتها وقدرتها التفسيرية ومكامن قصورها .. ولا معنى للقول بأن ثمة خيارات ثلاث لا رابع لها بل إن الخيار الأوضح في الأذهان والأقرب إلى الفهوم -و هو ليس بالضرورة الأصح- هو خيار التدافع من الخارج مع الفساد والاستبداد .. كما أنه الخيارُ الأسلمُ لحد الآن لأن تجارب المشاركة في عمومها لم تؤت أكلها بعدُ، ولمّا تَسْتَوِ على سوقِها لكي يتسنى لنا الاطمئنان إلى القول بنجاعتها، بل -وكما أسلفت- فإن التجربة المُشارِكَةَ هي نفسها بنت خيارٍ أُنْضِجَ بعيدا عن مراودات المجال السياسي بمعناه الخاص .. بعدٌ مكَّنَها من تربية قياداتها تربيةً سليمةً إلى حدٍّ بعيد أثمرت استقامةً لهم هيَ رأس مالِ هذه الحكومة أو جزءٍ منها على الأقل، وبدون هذا الرصيد ما كان ليُلْتَفَتَ إليها .. فالعقباتُ هي هي، والكفاءات هي هي .. ولكنَّ الإرادة في الإصلاح ليست هي هي، والنماذج البشرية المتصدرة له ليست هي هي ! إن ما يعنيني من تصريح أستاذِنا سيدي عبد الإله أساسا هو شأننا في حركة التوحيد والإصلاح بالنظر إلى ارتباطنا بتجربة إخواننا في الحكومة ارتباطا علينا فيه من المسؤوليات المعنوية قدر ما عليهم من المسؤوليات الفعلية المباشرة .. شأننا في حركة التوحيد والإصلاح التي تعمل في إطار مشروع هو من الناحية النظرية أكبر بكثير من مشروع العدالة والتنمية طولا على محور الزمان، وعرضا على محور الإنسان، وعمقا على مستوى وصايا القرآن وقضايا العمران .. ومشروعٌ هذا شأنه لحقيق بمن كان فيه أن يتهمَّمَ له، خصوصا وهو يرى العاديات تقتلع الأوتاد وتطير بالقلوع في تجارب، وتهدد بذلك في أخرى، مع رياحٍ للتغيير في إطار الربيع العربي صارت ريحا عاتية في كثير من الأصقاع .. إن مستقبل الحركة الإسلامية برمتها كما أراها في المدى المنظور مَنوطٌ برؤيتنا لهذه العلاقة بين الدعوي والسياسي، وموازنَتِنا لهذه المعادلة المشاكسة الأبِيَّة على الانضباط في طبيعةِ شِقِّها الأول العميقةِ الرفيقةِ، وطبيعةِ شِقِّها الثّاني السَّريعَةِ المُقاطِبَةِ .. إنَّها رُؤيَةٌ لا تُزيلُ عن الحركة الإسلامية "سلهام" السياسة لكن تُخَفِّفُها من "ربطة العنق" .. ولا تمحِّضُها ل"عمامة" الدعوة ولكنها تصالح "العمامة" و"البرنيطة"، والمنبر والمنصة، وتصنع التكامل بين الترشيد والتجديد .. وهي رؤية تجعل من ممارسة السياسة تنظيرا وتأطيرا وتوجيها وبيانا وضغطا وتعبئة في قضايا تسمو على الممارسة الحزبية وتعانق الوطن والهوية والإنسان .. يمكن لحركة التوحيد والإصلاح كما يمكن لجماعة العدل والإحسان ولغيرهما سواء داخل "الصف الإسلامي" أو خارجه أن يفعلوا الكثير ويقدموا الكثير .. بل وأمامهم بالفعل شيء كثير ليقدموه في إطار أقانيم ثلاثة على الأقل: إقنيم الذكر وإقنيم الفكر وإقنيم العمل المدني .. ولكن ليس عليهم بالضرورة أن ينخرطوا في العمل السياسي الحزبي المشارك في "قواعد اللعبة" كي يقدموا ما عليهم بل المجال واسع لاحب شاركوا حزبيا أم لم يشاركوا .. والله ولي التوفيق.