هل يمكن اعتبار «تطور» الخطاب الدستوري في المغرب، نتيجة تطور عميق في الأفكار السياسية للنخبة المغربية، يعكس منظورا تجديديا لقضية الحكم والسلطة، ويستمد جذوره من إيديولوجية حقيقية كما حصل في الغرب، حيث اعتبر قيام الدولة الأوروبية الحديثة، نتيجة لعملية تاريخية أسفرت عن ظهور مجال جديد هو المجال السياسي الخاص بالممارسة السياسية وحدها، والذي تبنى فيه شرعية السلطة على التعاقد بين الحاكم والشعب، أم أن هذه التحولات كانت تعبيرا عن موازين قوى بين المؤسسات الفاعلة في النظام السياسي المغربي، أو نتيجة أحداث سياسية معينة أثرت في الخطاب الدستوري ودفعت به إلى البحث عن أسلوب معين لإدارة التوازن بين الأطراف السياسية المتصارعة، وبالتالي صعوبة الحديث عن نقلة تاريخية حقيقية. يمكن طرح السؤال بصيغة أخرى: هل حصل تحول عميق في الفكر السياسي المغربي، بصدد المسألة الدستورية، يستند إلى قواعد الاجتهاد العلمي وإعمال العقل في إطار الفقه السياسي الإسلامي؟ أم حصل استلاب فكري وتبني كامل للتجربة الأوروبية؟ وإذا حصل نوع من التعايش بين النظام «التقليدي» والنظام الحديث، كيف أمكن للفكر السياسي المغربي أن يجمع بين مفردات البيعة والشورى ومفردات الفقه السياسي الإسلامي، مع مقتضيات الوعي الدستوري الحديث المقتبس من الحضارة الغربية و»المستورد» من الإنتاج الفكري الأوروبي؟ كيف أمكن تطويع النظام المعرفي الفقهي الإسلامي المستند في منطلقاته السياسية على الدين، والمتشبع بالأفكار التقليدية التي تؤطر نموذج الحكم القائم ليجيب جوابا حديثا عن مسألة تتعلق حسب البعض- بعقيدة الدولة؟ إن هذه الإشكالية المركزية تتضمن العديد من الأسئلة الأخرى التي فرضت نفسها على الوعي الدستوري المعاصر بجميع أشكال وصور التعبير عنه، ويمكن الانطلاق – في محاولة الإجابة عنها- من فرضيات أساسية: أولا: إن الوضع الدستوري الراهن للدولة المغربية ما هو إلا انعكاس لتاريخ طويل، بحيث لا يمكن فهم النظام الدستوري المغربي دون دراسة الأفكار السياسية السابقة المؤطرة له، وتحليل الخطابات التي تناولت سبل تطوير نظام الحكم في المغرب، ذلك أن خضوع هذا النظام لجملة من الأعراف والضوابط والقواعد، ليس وليد لحظة استقلال البلاد- كما يعتقد البعض- تنحصر مرجعيتها في اقتباس مضامين القاعدة الدستورية الغربية، المنظمة لشكليات العلاقة القائمة بين أجهزة الدولة وحدود المساحة التي تتحرك داخلها كل مؤسسة من المؤسسات السياسية، بل إن هذا النظام إلى جانب ما أخذه من النموذج الغربي الحديث وخاصة على مستوى التقنيات الدستورية (حيث لم تأت دول العالم العربي والإسلامي بجديد مهم، بحيث اقتصرت على استعارة النماذج الموضوعة في الغرب)، فقد ظل متشبثا بعناصر تقليدية مستوحاة من التاريخ الإسلامي داخل البناء القانوني للدولة، وهكذا نجد النظام المغربي يخضع لجملة من المتغيرات التاريخية، منها ما هو متصل أساسا بما كرسته الممارسة السياسية المغربية طوال حقب متفاوتة في التاريخ من أعراف وتقاليد ومسالك، اكتسبت قيمة دستورية عبر الزمن، ومنها ما هو متصل بنماذج سياسية عملية أقرتها أنظمة الحكم في التاريخ الإسلامي والتي استعار منها السلطان المغربي، وهو يمارس السياسة العليا « ويدبر أمر الرعية» بعض المفاهيم المسوغة لشرعية الحكم ساعيا إلى إضفاء الطابع الإسلامي عليه، ولعل تشكيلة القواعد الدستورية المغربية الحالية، وخاصة ما يتعلق بتحديد فلسفة الحكم وأسسه ومرتكزاته المذهبية» رغم صياغتها بقلم دستوري معاصر، فقد ظلت محتفظة في مضامينها ودلالاتها بهذه المرجعيات التاريخية من جهة، وتلك المستعارة من أنظمة الحكم في التاريخ الإسلامي من جهة أخرى. فالمغرب من الدول التي لم تحدث قطيعة مع الماضي، ومازال يتمازج فيها الماضي بالحاضر. ثانيا: إن المسالة الدستورية في المغرب لم تحدث قطيعة مع مفاهيم الفكر السياسي الإسلامي وعملت على تجديدها باستمرار، بحيث إن تطور المسألة الدستورية خضع لمنطلقات فكرية مرنة تعتمد المنهج التوفيقي، وتعكس نوعا من الازدواجية في التعاطي مع المسألة السياسية عموما، وهذه الازدواجية ليست ازدواجية عميقة قادرة على اختراق العقل السياسي المغربي وإعادة تشكيله وفق منظور تحديثي حقيقي، ولكنها ازدواجية سطحية تعتمد على اقتباس جملة من الأفكار السياسية الغربية بغرض التوظيف الإيديولوجي، بحيث لا يظهر أن الاهتمام بالمسألة الدستورية انطلق من قناعات فكرية عميقة، بقدر ما كان هذا الاهتمام منصبا على نظام سياسي ودستوري يمتح من معين تاريخي واضح، واكتسب نوعا من الممانعة والتحصين ضد أي نزعة تجديدية سواء اهتدت بالنموذج السياسي الغربي، أو حاولت تطوير نموذج تحديثي من داخل التراث السياسي الإسلامي. ثالثا: إن إحدى أهم معوقات التطور السياسي والدستوري الحقيقي تكمن في حدة التناقض الحاصل في الأصول الفكرية المؤطرة لمطالب التيارات السياسية الفاعلة داخل الحقل السياسي المغربي، وغموض الشعارات المؤطرة للمسألة الدستورية عندها. فمع شعار الحداثة السياسة، والإيمان بعلو دولة الحق والقانون وسموها، هناك نوع من التعايش والتسليم بمفاهيم وممارسة سياسيتين غير قابلتين للتجاوز والمناقشة، رغم تكريسها لقيم الفردانية والاستبداد وتجاوزهما لفلسفة الدستور ومبادئه التأسيسية. ومن جهة أخرى، هناك شعار «الدولة الإسلامية» وتطبيق « الشريعة» الذي لا يقل غموضا عن الشعار الأول، وتطرح بصدده العديد من الأسئلة: فهل الشريعة قانون صالح للتطبيق أم هي نظام اجتماعي وأخلاقي ناجم عن رؤية معينة للفرد والكون والعالم؟ لقد كانت المبادرات الإصلاحية الأولى قبل فترة الحماية من توقيع «العلماء»، غير أن سلطات الحماية كان لها تصور مخالف لما ينبغي أن تكون عليه الدولة المغربية وهو ما فتح المجال أمام رواد الحركة الوطنية – وعلى رأسهم كل من علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني – لبلورة منظور سياسي ودستوري معين يحاول التكيف مع مستلزمات الدولة الوطنية الحديثة. القدس العربي