يعيش المغرب منذ أزيد من خمس سنوات تجربة إصلاح سياسي فريدة ومتميزة في منطقة انتكست فيها تجارب تمخضت عن حراك شعبي واسع، لكنها أخطأت طريقها نحو تحقيق التغيير المنشود، وأخفقت، إذا استثنينا التجربة التونسية، في تحقيق آمال وتطلعات شعوبها نحو التحرر والعدل والكرامة. ولم تدم فرحة هذه الشعوب إلا مرحلة وجيزة عادت بعدها قوى الفساد والاستبداد لبسط هيمنتها وفرض واقع جديد أضحى أكثر سوء وأبشع حالا مما كان عليه الأمر من قبل. لقد عرفت هذه التجربة المتميزة التي حصل الإجماع على وصفها بالاستثناء المغربي مخاضات حقيقية ونقاشات واسعة على مدى هذه السنوات، مرتبطة تارة بمدى احترام تنزيل مقتضيات الدستور الجديد، وتارة أخرى بمناسبة إطلاق أوراش إصلاح رافقها جدل واسع، ولم تر النور إلا بما يشبه ولادة قيصرية حرصت جهات على محاولة إجهاضها والسعي إلى إفساد كل محاولات تحسين ظروف وشروط تنزيلها. وبصرف النظر عن تفاصيل كل ما يمكن أن يقال بشأن تقييم هذه المرحلة، فإن الوطن خرج منها مرفوع الرأس وقد تعزز رصيده السياسي بانتخابات جماعية وجهوية وتشريعية غير مطعون في نزاهتها على الرغم من المحاولات المجنونة للإفساد والتوجيه التي رافقتها. وارتفع خلالها منسوب ارتباط واهتمام المواطن العادي بالشأن السياسي، وأصبح في كثير من الحالات متابعا لمفردات وتفاصيل النقاش السياسي والاقتصادي التي ظل الاهتمام بها لسنوات حكرا على نخبة المجتمع. كما فتحت خلالها أوراش إصلاح ظلت عصية على الحكومات المتعاقبة التي نأت بنفسها حتى على مجرد الاقتراب منها متبنية للمثل القائل: كم حاجة قضيناها بتركها. وقد مكنت هذه الإصلاحات من تحسين عدد من المؤشرات الاقتصادية والتحكم في عدد من المعطيات غير المنضبطة التي كانت تمسك بخناق الاقتصاد الوطني وتوشك أن تصيبه بسكتة قلبية بين لحظة وأخرى. كما ساهمت هذه الإصلاحات من جهة أخرى في تحسين صورة المغرب وتعزيز مكانته الدولية وإشعاعه القاري. إن تقديرنا الموضوعي لهذا المسار بنجاحاته وإخفاقاته، التي لاشك أنها أيضا موجودة، يقتضي تضافر الجهود من أجل أن يستمر ويتواصل، ومن أجل أن يستمر الأمل الذي انطلقت جذوته منذ خروج المغاربة في مدن وقرى المملكة مطالبين بالإصلاح ومحاربة الفساد والاستبداد مع المحافظة على الاستقرار وعدم المساس بالمؤسسات. إن تطوير وترسيخ أسس البناء الديمقراطي تتطلب وتستلزم نفسا طويلا يستحضر الخط التصاعدي العام لهذا البناء، ولا يلتفت لبعض التفاصيل والجزئيات، ولا يأبه حتى لبعض التراجعات الظرفية التي قد تحصل بفعل قوة قاهرة أو ظرف استثنائي والتي لا تخل بأساس وجوهر تطور العملية الديمقراطية. ولعل المتفحص لتجارب الانتقال الديمقراطي عبر العالم لن يفوته دون شك الانتباه لحجم المخاض الذي رافق البدايات الأولى والمراحل التأسيسية لهذه التجارب، والذي يتطلب التعاطي معه قدرا كبيرا من الحكمة وحسن التقدير والاستحضار الدقيق للمعطيات المحلية والإقليمية والدولية وتوازنات المشهد السياسي وحجم المعاناة لدى مراكز المقاومة التي لا تستسيغ توسع وتزايد مساحات التحرر والاستقلالية المزعجة لمصالحها، مع الحرص على تفويت الفرصة عليها في تقويض مسار الإصلاح، واتخاذ المواقف المناسبة والمحسوبة حسب ما تقتضيه تطورات الأحداث في ارتباط بمعطياتها الموضوعية، وبما يضمن استمرار الإمساك ببوصلة الإصلاح التي ستتواصل محاولات هذه المراكز من أجل كسرها أو على الأقل التشويش على اتجاهها السليم. وينبغي ونحن منغمسون في خضم الأحداث والتطورات اليومية المتسارعة التي يحبل بها مشهدنا السياسي، ومهمومون بتداعياتها المؤلمة في كثير من الأحيان، أن تظل، ماثلة وحاضرة في أذهاننا، إيجابيات ودلالات اللحظة التاريخية التي يمر منها بلدنا والتي تنم عن وعي جديد أضحى يترسخ ضمن قناعات ووجدان المواطن الذي – مهما كان حجم المناورات التي تتوهم في كل مرة أنها بصدد كسب جولة من جولات صراعها مع إرادته وطموحه في الإصلاح- سيظل يقظا فطنا متوثبا لإفشال، ولو بعد حين، هذه المناورات الرامية إلى الالتفاف على إرادته، مثلما أفشل في محطة الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، بكيفية فاجأت وأذهلت قوى التراجع والنكوص، مخططات كانت تتوهم، واثقة من حساباتها، قدرتها على ضبط الأمور والأحداث والتحكم في مجرياتها. لقد انكسرت هذه المخططات على صخرة هذا الوعي الجديد الذي يلزم الحذر من الخطأ في تقديره، والذي أصبحت له أدوار حاسمة في تطورات مشهدنا السياسي باعتباره استمرارا للروح التي شكلت بداية هذا المسار منذ أزيد من خمس سنوات وتجليا من تجليات الإصرار والصمود والتضحية من أجل مواصلته، والوقوف أمام كل من يعتقد أن هذا المسار مجرد قوس فتح عن طريق الخطأ يمكن تحين الفرصة لغلقه بدل اعتباره تجربة فريدة وفرصة نادرة أمام الوطن ننجح فيها جميعا أو نفشل فيها لا قدر الله جميعا بدون استثناء.