تواجه غزة منذ رمضان الماضي عدوانا همجيا من طرف الجيش الصهيوني الذي لا يتورع عن استخدام كل أنواع الأسلحة الفتاكة ضد الفلسطينيين ، وهذا الهجوم لم يكن الأول من نوعه ولن يكون الأخير مادام أن معادلة الاستعمار والمقاومة قائمة. لكن الجديد أن هذا الهجوم جاء عقب نجاح الثورة المضادة في الإطاحة بأول تجربة ديمقراطية في مصر وأرجعت النظام القديم بكل أركانه مع تغيير بسيط في الوجوه المتصدرة للمشهد السياسي في مصر. وكانت المفاجأة في طريقة تعاطي النظام المصري مع هذا العدوان والتي يتفق الخبراء الموضوعيون على أنها تتناقض كليا مع طريقة تعاطي محمد مرسي، بل أسوأ حتى من تعاطي نظام مبارك. و لتوضيح ذلك لابد من وضع مقارنة بين العدوان على غزة في فترة الربيع العربي و العدوان على غزة في فترة الخريف العربي و تحديد الفوارق بينهما ومن تم استشراف اتجاه المستقبل الحضاري لمصر و العالم العربي. أولا- غزة بعد الربيع العربي : شنت القوات الصهيونية عدوانا على غزة في الفترة الممتدة ما بين 14 نونبر إلى 21 منه سنة 2012 ،و دائما تحت ذريعة مواجهة الإرهاب والقضاء على المقاومة وصواريخها. وقد حاولت من خلال الهجوم جس نبض موقف الأنظمة الجديدة، التي قامت بعد الثورات، من القضية الفلسطينية وخاصة النظام المصري. وكان هول المفاجأة قويا عليها إذ خرج الرئيس محمد مرسي وحكومته بموقف صريح رافض للهجوم الصهيوني ومنددا به ومحذرا إياه من عواقب ذلك، مذكرا هذا الكيان بالتحولات التي وقعت في المنطقة والتي لن تسمح له بالعربدة في فلسطين كيفما شاء، إذ صرح الرئيس محمد مرسي مباشرة بعد العدوان قائلا "لن نترك غزة وحدها إن مصر اليوم مختلفة تماما عن مصر الأمس ، ونقول للمعتدي إن هذه الدماء ستكون لعنة عليكم وستكون محركا لكل شعوب المنطقة ضدكم، أوقفوا هذه المهزلة فورا وإلا غضبتنا لن تستطيعوا أن تقفوا أمامها غضبة شعب وقيادة". ولم يكتف بهذا التصريح السياسي و إنما اتخذ إجراءات عملية على الأرض، فقام باستدعاء السفير المصري من تل أبيب، وفي نفس الوقت أرسل رئيس حكومته هشام قنديل إلى غزة في أوج الهجوم الصهيوني عليها، كما قام بفتح معبر رفح بشكل دائم، مما سمح للجرحى بالتوجه إلى المستشفيات المصرية والمساعدات الإنسانية والقوافل التضامنية بالدخول بكل حرية إلى غزة. هذه الإجراءات العملية رافقها أداء دبلوماسي قوي فرض على الكيان الصهيوني إيقاف الهجوم والموافقة على التهدئة، التي أنهت الحرب، التي لم تدم سوى أسبوع وبأقل الخسائر بالمقارنة مع الحروب السابقة و الحالية،ولأول مرة أجمعت الفصائل على أن هذه التهدئة خدمت مصالح المقاومة الفلسطينية . فمن خلال هذا الأداء الذي قام به نظام محمد مرسي، مدعوما بكل الأنظمة التي أصابتها رياح الربيع العربي، بالإضافة إلى قطر وتركيا، تأكدت إسرائيل و من ورائها الولاياتالمتحدةالأمريكية و أوربا أنهم بإزاء نظام سياسي جديد يتشكل في العالم العربي، يتميز بالاستقلالية والندية وخدمة مصالح أمته ، ويشكل تهديدا مباشرا للنظام الصهيوني و مصالح القوى الامبريالية و الأنظمة العربية الرجعية على رأسها المملكة العربية السعودية و الإمارات... ثانيا - غزة بعد الثورة المضادة : وكما حدث في المرة السابقة شن العدو الصهيوني هجوما عنيفا على غزة بعد نجاح الثورة المضادة في مصر في إعادة النظام العسكري للحكم. وقد بدأ هذا الهجوم في أول رمضان و لازال مستمرا وبوحشية لحد الآن. أما موقف نظام عبد الفتاح السيسي من هذا الهجوم فبدأ يتكشف منذ البداية، حيث أوردت وكالات الأنباء خبر قيام رئيس مخابرات النظام الانقلابي المصري بزيارة تل أبيب قبل الهجوم بيوم واحد ، وهذا ما جعل المراقبين يخلصون إلى التأكيد على وجود تنسيق بين الطرفين، وما عزز هذا التأكيد لزوم النظام العسكري الصمت لمدة طويلة، لم يقم خلالها بالتنديد بالهجوم، واكتفى الناطق باسم وزارة الخارجية بالدعوة إلى وقف العنف و الأعمال العدائية بين الطرفين في تسوية فاضحة بين الضحية والجلاد .أما رئيس الانقلابيين عبد الفتاح السيسي فلم يكلف نفسه عناء التصريح بموقف تجاه الأحداث، و بعد مرور أيام طوال صرح تصريحا مقتضبا لم يخرج عن سياق بيان وزارة الخارجية السابق. وكان أهم وآخر خطوة قام بها النظام الانقلابي الإعلان عن هدنة لم تستشر فصائل المقاومة حولها، و في نفس الوقت أثبتت صحيفة هآرتس أن بنود الهدنة وضعت من طرف مسؤولين أمنيين إسرائيليين مع نظرائهم المصريين . لذلك أعلنت المقاومة رفضها لتلك المبادرة التي لا تخدم إلا مصالح الكيان الصهيوني الذي أظهر التزاما و إصرارا عليها بشكل لم يسبق له مثيل. بموازاة مع هذه المواقف السلبية خرج الإعلام الرسمي و حداثيو الانقلاب بمواقف فاضحة عكست الانحطاط الأخلاقي و الفكري الذي وصل إليه هؤلاء، حيث أعلنوا اصطفافهم لجانب الصهاينة ودعا بعضهم نتنياهو للقضاء على حماس باعتبارها منظمة إرهابية، أما البعض منهم فقد دعا إلى تقديم قيادة حماس إلى محكمة جرائم الحرب لأنهم مسؤولين عن المذابح التي يتعرض لها الغزاويين، بعد رفضهم لاتفاقية الهدنة المصرية... وخرجوا علينا بتفاهة اعتقدوا أنها كفيلة بخداع المواطن الفلسطيني والعربي وهي "مع فلسطين ضد حماس"، في استدعاء بئيس لشعارهم السابق "مع الإسلام ضد الإخوان " الذي خدعوا به بسطاء المصريين في تمهيدهم للإنقلاب العسكري، ولكن بغبائهم لم ينتبهوا أن الشعوب العربية والفلسطينية تملك من الوعي السياسي ما يجعلهم يميزون به بين الغث والسمين وبين الصادق و الكاذب . هذه المواقف التي تبناها النظام الانقلابي تؤكد أن هناك تنسيق مسبق حدث بينه و بين الكيان الصهيوني ومن ورائهما الإمارات العربية و المملكة السعودية، مهد للهجوم على غزة من أجل القضاء على حماس باعتبارها منظمة إخوانية يشكل بقاءها في غزة تهديدا للثورة المضادة.و تؤكد أن الانقلاب العسكري الذي حدث في مصر سبقه التزام القائمين عليه ومؤيديهم الامارتيين والسعوديين بخدمة الأجندة الصهيونية في المنطقة كشرط أساسي لمساعدتهم في إنجاح الثورة المضادة. خلاصة: من خلال المقارنة التي وضعناها سالفا يمكننا استنتاج أن الأمة العربية تعيش مرحلة تاريخية مفصلية، تفرض على قواها الاجتماعية الحية بتياراتها الفكرية المختلفة تكثيف و تنسيق جهودها مع ترك الخلافات جانبا لاستعادة ثورتها المجيدة، من أجل بناء نظام ديمقراطي يعبر عن مصالح شعوب هذه الأمة، والذي يشكل النقيض الحضاري الطبيعي للنظام الصهيوني، و بالتالي وضع اللبنة الأولى في طريق تحرير فلسطين. وأن الركون إلى الوضع الراهن الذي خلقته الثورة المضادة في مصر لا يعني سوى العودة إلى حياة التبعية التي كان عليها النظام العربي قبل الربيع العربي، وبالتالي الخضوع بشكل كامل للكيان الصهيوني ومن ورائه القوى الامبريالية، وما حرب غزة إلا مثال واضح على ذلك . ويجب التأكيد هنا على الدور الحاسم للشعب المصري في هذا الإطار، فعليه أن يستعيد ثورته المجيدة والالتحاق بالشارع إلى جوار إخوانهم المتواجدين فيه منذ عام كامل للإطاحة بالانقلابيين والعودة إلى أجواء الحرية التي ذاق حلاوتها لفترة معينة ، و التاريخ علمنا أن الشعوب إذا استعادت إرادتها وحريتها لا يمكن إرجاعها إلى الوضع السابق، حتى وإن استطاعت القوى المضادة تحقيق نجاحات فتكون مؤقتة، أمام إصرار الثوار على حقوقهم مهما كلفتهم من تضحيات.