تعد قضية المرأة من الاشكالات البارزة التي ظلت مثار تقاطب ايديولوجي حاد بين الشرق الاسلامي و الغرب العلماني في العصر الحديث، حيث يدور الاختلاف بينهما في هذا الموضوع حول مسألة المساواة بين المرأة و الرجل من عدمها، أي هل لهما على سبيل التساوي نفس الدور في الحياة ؟ أم أن هناك تمايز بينهما ؟ و تعود بداية السجال الفكري النظري حول هذه القضية لبداية القرن التاسع عشر حين طفت النية الغربية في استعمار الأقطار الإسلامية و اختراقها ثقافيا و ضرب كل ما يشكل ثابتا بالنسبة لها من قيم دينية و أخلاقية و عادات تشكل الثقافة الشعبية للمجتمع المسلم، و قد لعبت المرأة في هذه الحقبة دورا مهما في الحفاظ على التماسك الداخلي للمجتمع و صيانة خصوصياته برغم وضعها المتخلف الذي كان يعكس وضعية مجتمعها الرجعية، و هذا ما حدا بالمشروع الغربي الامبريالي الى طرح تصور جديد للمرأة و دورها في الحياة ساهمت في نمذجته الحركات النسائية التي نشأت في أوروبا و التي نادت بمساواة الجنسين في الحقوق و الواجبات. و قد ظهرت ملامح تسرب هذا التصور الى العالم الاسلامي عمليا بانبثاق نخبة مغربة من داخل البلاد الاسلامية سعت إلى الترويج للنمط الحضاري و الثقافي الغربي و تكريس قناعة بالبديل الغربي في التقدم، و ذلك كنتيجة طبيعية للفارق الحضاري الهائل بين القطبين و كذا حجم الاستلاب و التغريب الذي مورس على العقل المسلم. المرأة في التصور الاسلامي اختلفت وضعية المرأة داخل النسق الحضاري الاسلامي بتشكيلاته المتعددة منذ العهد النبوي حتى الآن، بحيث أن الاختلاف كان و لا يزال كامنا في انتقالنا من قطرلآخر حسب الخصوصيات الثقافية و التاريخية لأهله، فوضع المرأة اليوم في المجتمع الأفغاني أو السوداني ليست كذلك في نيجيريا أو السعودية أو ماليزيا، بحيث أن التباين جلي في طرق اللباس و الحجاب و تحديد سن الزواج و طرقه و في تعليم المرأة و عملها و غيرها من مظاهر الحياة الاجتماعية، فبينما تسوق المرأة الطائرة و القطار في تركيا لا يسمح لها بسياقة السيارة في السعودية، و بينما يعترف لها بالمشاركة السياسية في بلد نامي كباكستان لا يأذن لها بذلك في دولة متخلفة أخرى كالسودان. لكن هذا التنوع في وضعية المرأة و علاقتها بالدولة و المجتمع و موقعها فيهما لا يعكس بحق أحكام و قواعد الدين الاسلامي في تصويره لموقعها في الحياة، ما دام الواقع العملي لا يعكس دائما الحقيقة النهائية لكل النظريات و المرجعيات الدينية و الفلسفية. و بغية التطرق لكلية النظرية الاسلامية و تصورها للمرأة يلزمنا الرجوع الى المصادر الرئيسية للشريعة الاسلامية و كذا الاستنجاد ببعض الاجتهادات المعاصرة لعدد من المفكرين الاسلاميين، و ارتباطا بهذا السياق يمكن أن نستحضر في هذا العرض الوجيز بعض كتابات محمد قطب و عبد الوهاب المسيري و علي عزت بيجوفيتش و غيرهم، هذا الأخير يعتبر من بين أهم الذين ناقشوا و عرضوا الرؤية الاسلامية المعتدلة للمرأة، موقعها و دورها في المجتمع، انطلاقا من نظرته التأملية التفكرية في القرآن الكريم و السنة النبوية، و أخرى تحليلية قارب من خلالها موقع المرأة في الفكر و الواقع الاسلامي و نظيره الغربي، فالاسلام حسب بيجوفيتش ''يقرر المساواة بين الرجل و المرأة إذا تحدث عن المرأة باعتبارها شخصية إنسانية ذات قيمة شخصية مساوية تتحمل واجبات أخلاقية جمالية و إنسانية، و لا يساوي الاسلام بين الرجل و المرأة إذا كان الأمر يتعلق بالتساوي في الوظيفة و الدور في الأسرة و المجتمع، كما يفهم معنى المساواة في أوروبا''، و تلخص هذه المقولة موقع المرأة في فكر بيجوفيتش المستند على المرجعية الاسلامية و الذي ينظر الى المرأة و الرجل على السواء كشخصية إنسانية سامية تمثل الإنسان الذي كرمه الخالق جل شأنه عن سائر مخلوقاته قبل كل شئ و بغض النظر عن أي شئ''ولقد كرمنا بني آدم''[سورة الإسراء: الآية 70]. وهذا ما يتجلى في عروض قرآنية كثيرة، بحيث أن جميع الآيات التي تعلقت بالبناء الحضاري الانساني العالمي و ممارسة الشهادة على الناس كأعظم دور لهذه الأمة ''كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله''[سورة آل عمران: الآية 110]، ''كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا''[سورة البقرة: الآية 143]لم تستثن خلاله المرأة أو ينتقص من دورها في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أو في الشهود الحضاري على الناس، حيث أن المساواة هنا ثابتة لأن الأمر مرتبط أساسا بالقيمة (قيمة الاصلاح)، أماعندما يرتبط الأمر بالوظيفة و الدور في الأسرة و المجتمع فتتغير المعادلة الاسلامية و تنتفي المساواة بين الجنسين، ذلك أن المنهج الاسلامي يأخذ بعين الاعتبار الخاصيات البيولوجية و النفسية التي خص بها الله جنسا دون آخر. و في نفس سياق تصوير موقع المرأة في الاسلام يتقاطع الراحل محمد قطب مع بيجوفيتش بتأكيده على عدم تفريق الاسلام بين المرأة و الرجل في الانسانية و في العبودية و في الجزاء الأخروي مع اقرار بعض الفروق في تكاليف و اختصاصات معينة، كما انتقد قطب أؤلئك الذين ينتقصون المرأة و يحصرون مهمتها في خدمة الرجل و الولادة و التنشئة لا زيادة، مؤكدا على أنه وضع مخالف للاسلام مخالفة صريحة. لكن ما تقدم لا ينفي وجود أصوات معارضة و طروح ايديولوجية مخالفة له من داخل الأقطار الاسلامية تعتبر مكوث المرأة بالبيت لتربية النشأ و إشاعة التراحمية و نقلها من دائرة الأسرة لصياغة و صيانة المجتمع عملا مملا فيه حيف عليها، و تنادي بالمقابل بتحرير المرأة كليا و مساواتها بالرجل و جعل الأسرة مؤسسة قائمة على التعاقد على الطريقة الأوروبية بين جنسين مختلفين متساويين في كل شئ، و يعبر عن هذا الفريق ما يسمى "بالتنويريون" و شعارهم في ذلك ''إن المرأة المسلمة لابد أن تصنع ما صنعته أختها الأوروبية، كي تنال حريتها'' (قاسم أمين)، و يشكل هذا الشعار امتدادا صريحا للفلسفة الأوروبية في فهمها و تفسيرها لمفهوم الحرية. المرأة في التصور العلماني قام العقل العلمي الأوروبي برد فعل عنيف ضد الدين ابان عصر النهضة، و في سياق القطيعة الابستيمولوجيةمع المقولات الدينية التي سادت خلال العصور الوسطى أعلنت أوروبا مراجعة جميع النظريات التي طبعت حياتها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في عهد الحكومات الثيوقراطية، مما أدى الى انقلاب تصور الغرب للانسان عموما ومنه تصوره للمرأة باعتبارها جزء لا يتجزأ من المنظومة المجتمعية. و قد نص الدستور الفرنسي لسنة 1791 على المساواة المطلقة بين المرأة و الرجل في اطار الدولة العلمانية الجديدة، بعد قرون من النبذ و التهميش الكنسي، كما خرجت من رحم الثورة الصناعية حركة لتحرير المرأة، طالبت بحق مساواتها مع الرجل في حق العمل و التعليم و تقلد الوظائف العامة.لتشكل المحطتين معا (الثورة الفرنسية-الثورة الصناعية) في هذه المرحلة انقلابا جذريا في اعادة صياغة الموقف الأروبي الحديث من المرأة، بأن تبنى الغرب حتمية المساواة بينها و بين الرجل و عدم اخضاع أحدهما للآخر و الاحتكام الى التعاقدية المفرطة كمرجعية لتنظيم العلاقات الأسرية أولا، انبثقت عنها تعاقدية اجتماعية شكلت نهائية بروز المجتمع العلماني الشامل الجديد، ساهمت المرأة بوعي أو بدون وعي منها في تكوينه بعد أن استغل جانبها الجنسي اللاانساني (الحيواني) في الدعايات السياسية و الاقتصادية للنظام الجديد، حتى غدت البورنوغرافيا مهنة لا يشعر حيالها المجتمع الغربي بأي حرج، بحيث أن ممثلات أفلام البورنو اليوم متزوجات ينجبن أطفالا و يعتبرن ما يقمن به فنا و خدمة يحتاجها المجتمع. و بهذه البساطة و السرعة تمت علمنة المرأة الغربية لتصير مرجعية جسمها حيث لا مكان للرجل و الأسرة و لا دور للمجتمع و لا مجال للحديث عن الأخلاق و المحرمات. اختلاف حول ظاهرة الانسان ينسجم الانسان الغربي الحديث الى حد ما مع الخلفية المعرفية و الايديولوجية التي أطرت تاريخ أمته منذ نشأة فكرة الانسان الطبيعي و صبها في قالب العلمانية الشاملة الجديدة القائمة على فكرة الخلق بالصدفة أو خلق الطبيعة (الانسان ابن الطبيعة) و التي ترفض كل مقولة ميتافيزيقية دينية أو غير دينية تؤكد العكس، و بموجب هذه الفلسفة يعتبر الانسان شيئا من بين الأشياء المحسوسة يخضع في تفسيره لما يسمى وحدة العلوم يتم تفكيكه الى عناصر مادية و تستمر محاولة اعادة تركيبه في تجاهل تام لجانبه الروحي اللامادي الذي يبقى مستعصي التفسير على قوانين الطبيعة. و في استمرار تجاهل هذا البعد الأساسي في التركيبة الانسانية تم تغييب المنظومات الأخلاقية و الدينية حتى أضحت غاية الانسان الحياتية بسيطة سطحية لخصها الماديون في مقولة ''السعي وراء المتعة و الهروب من الألم'' و التي يتحدد بمقتضاها المعيار الكلي و النهائي للسعادة الانسانية في اللذة. و من هذه الفلسفة الاختزالية انبثق التصور الغربي العلماني الحديث للمرأة، و منه خط لها دور في الحياة تجلت معالمه في اطلاقية المساواة بينها و بين الرجل، فتم استغلالها منذ بداية الثورة الصناعية حتى الآن في الانتاج المادي و الربح السريع و الدعاية الاقتصادية، و لا أدل على ذلك التفاوت الحاصل اليوم في الأجور في أكثر دول العالم تقدما، حيث خلصت دراسة قامت بها وزارة العمل الأمريكية سنة 2009 أن هناك اختلافات ملحوظة في سمات الرجال والنساء وأن هذه الاختلافات هي المسؤولة عن نسبة كبيرة من الفجوة في الأجور. وقد خلُص التحليل الإحصائي، الذي يتضمن هذه المتغيرات، إلى نتائج تشير إلى أن هذه المتغيرات مجتمعة هي المسؤولة عن نسبة تتراوح ما بين 65.1 و76.4 بالمائة من الفجوة الأولية في الأجور بين الجنسين والتي تبلغ نسبتها 20.4 بالمائة، مما يفسر حجم شراهة النظام الرأسمالي و كافة النظم المادية الأخرى المشابهة و المغالطات التي قامت عليها نظرياتها في المساواة بين الجنسين، و يتضح ذلك أكثر في استغلال المرأة في الدعاية للمنتجات الاقتصادية و تحويلها الى مجرد جسم يزيد في تحريك الرغبات الحسية و الجنسية تحديدا، بحيث أصبحت الدعاية البورنوغرافية عاملا أساسيا في الترويج للسلع و الخدمات، و لنا أن نضرب مثلا هنا بإشهار آلة الحلاقة التي نعلم أنها تخص الرجال فقط، فلا يمكن اليوم أن نتصور هذا الاشهار بدون جميلة فاتنة ربع عارية تحرك ما يمكن تحريكه لتمسح برقة على وجه و صدر صديقها نصف العاري الذي حلق دقنه توا، فيصبح معيار اقتناء آلة الحلاقة هو التوجيه الجنسي للآنسة نحو السعلة بغض النظر عن جودتها. و على النقيض، ينتمي التصور الاسلامي للانسان لما سماه سيد قطب بالتصور الاعتقادي الشامل لحقيقة الكون و حقيقة الحياة و حقيقة الانسان، أساس الايمان به غيبي لا صلة له بعالم الطبيعة / المادة، فالانسان حسب هذا التصور ذو كيان متميز تميزه ازدواجية تكوينه (الروحي - المادي) الذي تم بفعل خلق إلاهي في عالم الغيب، و استخلفه ربه في عالم الشهادة ''و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة'' [سورة البقرة: الآية 30] ، و من أجل ذلك سخر له وسائل مادية للاستخلاف، و جانب روحي يحفظ توازنه في علاقته مع بني جنسه و في تجديد مستمر لصلته بربه. و ليحقق الانسان استمراره في الخلافة في اطمئنان و سكينة خلق له الله من نفسه زوجا ليؤنسه في مسيرته الدنيوية ''و خلقنا لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها'' [سورة الروم: الآية 21]. إن القرآن الكريم لا يميز بين المرأة و الرجل في المحددات الكبرى لخلافة الانسان في الأرض (الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر – الشهود الحضاري..) و هذا لا يتحقق إلا بايمان حقيقي بالطبيعة الازدواجية للانسان (الروحي / المادي) و ايمان عميق بوجود عالم الطبيعة / المادة و آخر ما وراءها. و نحسب أن للمرأة في هذا السياق وظيفتين أساسيتين، وظيفة كبرى لا تمايز فيها، تتجلى في مخاطبة خالقها لها كإنسان يجب أن لا ينقطع سعيه الدائم في الاصلاح الأرضي، و وظيفة صغرى منبثقة من الأولى تتحدد في تفصيل التشريع الاسلامي لكيفية تأدية الوظيفة الكبرى المرتبطة بدور المرأة في الأسرة و المجتمع، و الذي تتمايز فيه مع الرجل طبقا لخصائص خلقية خص بها الخالق كل جنس. و يبدو مما سلف أن لا قاسم مشترك بين التصورين الاسلامي و العلماني حول موقع المرأة في المجتمع و دورها في الحياة، بالنظر الى اختلافهما في فهم و تفسير ظاهرة الانسان. و الله أعلم