فلمّا أوشك أن يجيئها المخاض التجأت إلى حُجرة ، بالسّواد صبغ الدخانُ جدرانها ، من طين أركانها ، سقفها خشب و قصب فوقه قشّ و تراب. لم يكن خيار اللّجوء إلى مصحّة عموميّة أو خاصّة ممكنا ، لأنّ الاقتصاد و التاريخ و الجغرافيا و الطبقة الاجتماعية لا تسمح بذلك ، فأسرة من طبقة اجتماعيّة متواضعة تعيش وضعية اقتصاديّة متواضعة بقرية غابرة في مدينة منسيّة بتاريخ الرابع عشر من نونبر من سنة 1965 لم تكن لتجرؤ على التفكير في ذلك ، كما لم يكن ممكنا اختيار حجرة أخرى من حجرات البيت الطيني العتيق ، لأن السماء الممطرة و الأرض الموحلة ترهق الجدّة العجوز التي ستتولّى خدمة ذات الحمل ، و تبطئ حركتها داخل البيت الفسيح و تعيق تنقّلها بين مرافقه البسيطة و تحت سمائه المكشوفة ، و ما كان لجوؤها إلى حجرة الطبخ عبثا ، بل لأنّه المركز التي تدور حوله الحياة اليومية داخل البيت ، فهو مخزن مواد التّموين و مستودع أدوات الطبخ ، و هو كذلك مكان إعداد الطعام و منبع نار التدفئة في فصل الخريف البارد . و بالطبع ليس من الممكن الحلم بمساعدة طبيبة متخصّصة في النساء و التوليد ، و لا مولّدة مجازة من الدولة و لا حتّى من انتسبت إلى هذا الميدان بقوّة الحاجة أو في ظلّ الفراغ ، ولكن و كما هو معروف منذ سنين تتكلّف الحاجّة "عائشة" بتوليد كلّ نساء الدوّار و تتولّى العناية بالأمّ و الطفل قبل و بعد الوضع ، الحاجّة عائشة التي يُحكى أنّها طوّرت خبرتها في هذا الميدان خلال السنتين اللّتين قضتهما خلال سفرها إلى البيت العتيق لأداء فريضة الحج مع القوافل التي كانت تضمّ الرّاجلين و الرّاكبين على متن الدواب و الإبل . و بما أنّ الفصل فصل خريف و السنة ممطرة بامتياز فإن العادة و الضّرورة تقتضيان إصلاح الأسقف الطينية خشية تسرّب ماء المطر إلى داخل الحجرة و ذلك ديدن كلّ السكّان في هذه الفترة من كلّ سنة ، و كذلك فعلت المثقلة في شهرها التاسع بمساعدة أخ لها – تكلّف في غيّاب زوجها بسبب ظروف عمله حيث قدّر الله أن يتواجد ما وراء منعرجات (تيشكا) تكلّف بطَلي سقف الحجرة بخليط من ماء و طين لرتق الشقوق التي خلّفها قيظ الصيف المنصرم موشومة على وجهه القرمزي . تنهي الحاجّة "عائشة" مهمّتها بنجاح مقابل بيضات دجاج معدودات أو قليل من الحنّاء أو قطعة صابون أو بعض القطع النقديّة ، فيرى المولود ضياء الدنيا على يديها المباركتين في حجرة الطبخ الطينيّة (الكُشيّنة) ، و التي سيقضّي بها أسبوعه الأوّل مع أمّه التي تحضّر مُجبَرة من الطّعام ما استطاعت إليه سبيلا بيديها الكريمتين لإقامة صلبها ، و ليدُرّ القليلَ من الحليبِ صدرُها . الخبز و الحساء ، و الكسكس و ما شابهه ، و شاي أو قهوة سوداء أو مع قليل من الحليب ، مكوّنات رئيسية لمائدة الطعام ، و في بعض الأحيان زيت زيتون و بعض الخضر، و في أنذر الأوقات قد يُضاف إلى قائمة الطعام القليل من اللّحم ، هذا ما وجد عليه آباءه و هكذا سيعيش فترة من حياته ، و ينمو كنبتة تتغذى من الثرى و ماء المطر و من القوت ما حضر ، و هكذا سيلزم أباه في السفر و الحضر ثمان عشرة سنة ، يفترقان بعدها على أمل اللّقاء في يوم آخر و زمن آخر ، و عالم آخر أفضل من هذا الأدنى . بعد طفولة و شباب و مراهقة ، فكأنّما وُلِد مولودنا من جديد حين أمسى بأب و أصبح بدونه ، خرج من رحم حياة إلى أخرى مختلفة ، إنّه ميلاد جديد و حياة جديدة تبتدأ بالسنة الخاتمة للثانوي ، فسنوات الجامعة الأربع ، ثمّ تأتي بعد ذلك سبع عجاف يأكلن ما قدّمت لهنّ السنوات السّابقة من أمل ، ثمّ تأتي بعد ذلك سنوات "المعهد" الثلاث سيُغاث فيها الأمل الذي أوشك على الهلاك خلال سنوات العطالة السبع . دراسة و تكوين عام ، و بطالة مع احتراف مهن حرة مختلفة ، ثمّ إعادة تكوين و بطالة من جديد لم تدم كثيرا ، لتنتهي هذه الملحمة معلنة عن ميلاد آخر مع الخروج إلى حياة الوظيفة في بداية الشهر الأخير لآخر سنة من القرن الماضي .