الكذب ثم الكذب ثم الكذب، ثلاثية متشابهة تقصي "الرأي والرأي الآخر"، و"الخبر مقدس والتعليق حر"، وعناوين عريضة تمثلتها الصحافة عبر ربوع المعمور، وتحولت إلى شعارات لقنوات وصحف ومنابر إعلامية متنوعة، لم يعد لهم مكان في جريدة "الأخبار" بشكل قطعي، بسبب سمو الكذب على كل القيم الصحافية النبيلة، ولأن من يقومون بإعطاء الدروس في المهنية الصحافية ويتوعدون زملاءهم في المهنة ممن يسترزقون ب"الخبر" حولوا صحفهم إلى منابر لتصدير بيانات تثير أكثر من علامة استفهام، حول مصدرها والغاية منها. وحينما يتحول الكذب إلى عادة يومية، يصير الرد مع كل جرة قلم أمرا مستعصيا، في وقت صار كثيرون يتركون أفواههم فاغرة من شدة التضليل الذي يلحق حقائق يحضرونها، ثم يجدون نقيضها في الجريدة المذكورة، كما هو حال من تابع الحلقة الأخيرة من برنامج 90 دقيقة للإقناع، التي تمت إذاعتها على قناة ميدي 1 تي في، حين تحدث المصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، عن عدم إمكانية متابعة ملفات فساد تعود إلى 15 و20 سنة خلت، ولأن الوزير تحدث لغة قانونية محضة، لا يفقهها القائم على جريدة "الأخبار"، وتبدو مستعصية على أقلام مضللة، بدأت الجريدة تطبل وتعيد التطبيل بتقويل الوزير ما لم يقل، والحديث عن "تطبيع" مزعوم مع الفساد، بيد أن لغة الوزير كانت واضحة، تقصد عدم إمكانية متابعة ملفات الفساد التي تعود إلى 15 و20 سنة خلت لوقوعها تحت طائلة التقادم الجنائي. ولو كان ما تدعيه الجريدة صحيحا، لما دفع وزير العدل والحريات في اتجاه فتح ملفات بالوزارة لم يطلها التقادم، وتتعلق بتسجيلات تدعي وجود اختلالات في تدبير صفقات ومباريات للتوظيف، تهم الفترة ما بين 2008، و2011، أي قبل أن يتولى المصطفى الرميد مسؤولية هذه الوزارة، بالرغم من أن جريدة "الأخبار" ظلت توهم قراءها أن الأمر يتعلق باختلالات وقعت خلال فترة توليه مسؤولية الوزارة، وأعادت مغالطاتها غير ما مرة بشأن وقوع انتقام من المهندس المذكور في عهد الوزير، إلا أن الوثائق أبت إلا أن تكذب الجريدة بتأكيد أن المعني تم نقله إلى المديرية الفرعية في 10 أكتوبر 2011، أي قبل تولي المصطفى الرميد مسؤولية وزير العدل والحريات. ولأن الممارسة تولد الاحتراف، فقد صارت ممارسة الكذب احترافا على أعمدة وصفحات الجريدة، تنتهج فيها أنواع متطورة من عمليات اجتزاء التصريحات وتأويلها وافتراء أحداث ولعب دور غريب في إشعال الصراعات، كما هو الحال بالنسبة لاجتزاء موقف وزير العدل والحريات من قضية "الجنسية الفرنسية" التي يتهم فيها وزير الشؤون الخارجية والتعاون صلاح الدين مزوار، تركت الجريدة تصريحات طويلة قال فيها الوزير ردا على سؤال الصحافي يوسف المهايسي إن وزير الخارجية نفى أن تكون لديه جنسية فرنسية، ولا يمكن تصور الكذب في أمر كهذا، وبعد أسئلة أخرى للصحافي، رد الوزير أنه لا يمكن الكذب في أمر يحتمل فقط النفي أو التأكيد، ولا يمكن إخفاء الحقيقة بشأنه، فقامت جريدة الأخبار بافتراء معطيات أخرى، والحديث عن أزمة بين حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب العدالة والتنمية !!! وبالرغم من بلاغات التكذيب والردود التي ترسلها الوزارة إلى الجريدة، بشأن كتابات في أعمدة الصفحة الثانية، تعيد وتكرر نفس الإدعاءات بوجود ملفات فساد في رفوف الوزارة، وتنفي هذه الأخيرة ذلك تماما، إلا أن الجريدة مصرة على إعادة العزف على وتر الكذب، ولم يتبق سوى دعوة القائمين عليها للقدوم إلى الرفوف التي يتحدثون عنها للتأكد من عدم وجود أية شكاية، بل حتى الوشايات تتم إحالتها للبحث واتخاذ المتعين بشأنها. وبالرغم من أن وزير العدل والحريات صرح أن بلاغ إعفاء مدير التجهيز وتدبير الممتلكات يأتي بصفة مباشرة لوضعه الصحي، مع التأكيد على وجود اختلالات أخرى في التدبير ومن بينها الاختلالات التي عرفتها محكمة تاوريرت وأدت إلى إعفاء المدير الفرعي لوجدة، صم كاتب عمود "شوف تشوف" آذانه عن الشق الثاني من التصريح، وقام باجتزاء الجزء الأول، لبدء الحديث عن تبييض صفحات الفساد، علما أن المعطيات التي وردت في المقال المذكور لم تكن صحيحة بالكامل، إذ أعفى وزير العدل والحريات قبل ذلك مدير الشؤون المدنية بسبب وضعه الصحي، ثم مديرة التحديث والدراسات والتعاون الدولي لنفس السبب، ولم يحالا على التقاعد بعد كما ادعى صاحب الجريدة. والأكيد أن وزير العدل والحريات تدافع عنه إنجازاته في محاربة الفساد، والتي تتم بشكل يومي، بما فيها تفعيل قاعدة "من أين لك هذا؟" سواء مع المسؤولين أو مع القضاة، لكن الفراغ الذي تستغله الأقلام المضللة يكمن في قاعدة قانونية أخرى لا يمكن لهم أن يفقهوها، وهي قرينة البراءة، التي لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يخرقها أيا من كان، وهي التي لا تسمح بالكشف عن مختلف الملفات التي يتم التحقيق فيها أو التي تتم إحالتها على النيابة العامة أو القضاء. إن تدبير مؤسسة إعلامية بالطريقة التي يقوم بها صاحب جريدة "الأخبار"، تتنافى وتتناقض مع ما يخطه في أعمدة الجريدة في محاربة الفساد، وانتقاد عدم الامتثال للقانون، وهو لا يستطيع حتى تطبيق الفصل 26 من قانون الصحافة، الموجب لأصحاب المنابر الإعلامية بنشر التوضيحات والردود، أو الاستقصاء في نشر الخبر، وبحث الرأي الآخر، عوض غض الطرف عن الحقيقة والاستمرار في بث التضليل ونشر الأكاذيب.