أما يقولون، من رأى ليس كمن سمع؟ قطعا فكل الذي استمعنا إليه أو قرأناه من خطابات التشكيك في قدرة روسيا على أن تمنحنا كأسا عالمية استثنائية من صنف الخوارق التي بات العالم يشهدها على ايقاع الإبتكارات العملاقة في مجالات التواصل بكافة أجناسها، سقط في الماء أو تبخر في الهواء أو احترق بالكامل بقوة الضوء والجمال المنبعثين من روسيا التي صممت في واقع الأمر مونديالا ما خطر ببال أحد. وعندما نتحدث عن الإرث الإنساني الذي تنشده كل دولة تتصدى لتنظيم حدث رياضي في ضخامة وكونية كأس العالم، فإن ما ربحته روسيا من المونديال الذي أسدلت عليه الستارة أمس بموسكو، سقوط الغشاوة التي لطالما أمعن الكثيرون في وضعها على عيون الناس، التغير الراديكالي في نوعية الصورة التي كان يقيمها الناس عن روسيا تحت تأثير ما كان يصدر لهم مكتوبا ومحكيا عن تلفيقات وأكاذيب، فمن حضر بروسيا مباريات كأس العالم أو من شاهدها على شاشة التلفاز، سجل بالعين المجردة ما يوجد فعلا من فوارق لا تقبل بالقياس من أي نوع، بين نمطية الصورة الرائجة عن روسيا منذ الحرب الباردة وحقيقة الصورة الحالية لروسيا المتحررة والأنيقة والجذابة، روسيا التي وصلت لدرجة عالية في الإتقان عند تنظيمها للنسخة الواحدة والعشرين لكأس العالم وما تركت شيئا للصدفة، وروسيا التي جعلتنا كما قال إينفانتينو رئيس الفيفا نسقط في غرامها، ونحزن على أن شهر الإنبهار والمتعة قد انتهى. أما ما كان من إرث إنساني ورياضي تركه المونديال، فإن أعمقه هو مساهمة كرة القدم في بناء العالم الواحد، عالم تنتفي فيه الحروب والضغائن والتسابق المجنون لتحقيق المصالح، عالم يتأنسن، ولعل العالم أدرك فعلا أن المونديال هو مساحة كونية للإلتحام بالقيم التي أوصت بها كل الديانات السماوية، قيم التسامح والتكافل والإنتصار للخير، وبهذا المعني فإن الإنسانية ستكون سعيدة في أن يقام المونديال كل سنتين بذل أربع سنوات، لتكون أمامها فرصة لمداواة ما يلحق القيم الرفيعة من أضرار، نتيجة ما يحفل به كوكب الأرض من صراعات وتطاحنات. ومونديال روسيا ترك أيضا إرثا رياضيا، على شاكلة دروس وعبر، كل من أعرض عن قراءتها والإعتبار بها إلا وبقي على الهامش، أو بقي رقما خارج الإطار. من هذه الدروس أن كرة القدم المستوى العالي باتت تفرض الكثير من المستلزمات التي لها علاقة بالجانب العاطفي حيث يكون الإلتحام بالوطن وبالرموز المقدسة أشبه بقبس النور الذي يبدد العتمة، ولها علاقة بالمقاربات العلمية التي تتحكم في إعداد المنتخبات الوطنية لحدث في كونية المونديال، ولها علاقة بتنظيمات اللعب التي شهدت خلال مونديال روسيا الكثير من التحسينات والتجويد على مستوى الإلتزام الجماعي وعلى مستوى النضج الكبير للاعبين في تنزيل فكر مدربيهم. ولعل أبرز هذه الدروس، هي التي عنتنا كمغاربة وكعرب وحتى أفارقة، والمشترك فيها أن أكبر مسببات الإخفاق، حتى لا نكذب على أنفسنا، هو بعدنا عن العالمية في اشتغالنا اليومي على كرة القدم من قاعدتها إلى قمتها، فما شاهدناه من كل المنتخبات العربية والإفريقية، ومن ضمنها المغرب، أخبرنا بوجود معاناة كبيرة في التأقلم مع المستويات الكبيرة، وفي الإلتحام بالمحددات الجديدة لكرة القدم، بحيث لا يكون التأهل لكأس العالم غاية في حد ذاته، بل وسيلة لكتابة أمجاد جديدة. وداعا روسيا 2018، مرحبا قطر 2022. عاش كأس العالم وعاشت كرة القدم.