زمن الإبداع بالأندلس.. .. ما هو وجه الأسطورة في تتويج الماتادور الإسباني بلقب كأس أوروبا للأمم 2012؟ هواة الأرقام ومحترفو التوثيق يرون أسطورية الإنجاز في أنه غير مسبوق، فلم يحدث أن فاز منتخب أوروبي بلقب مونديال القارة العجوز مرتين متتاليتين، ولم يحدث أيضا أن جعل منتخب أوروبي لقب المونديال واسطة العقد الخالد، فمنتخب إسبانيا فاز أولا بكأس أوروبا للأمم سنة 2008 وبعدها بسنتين فاز بكأس العالم بجنوب إفريقيا وبعدها بسنتين فاز مجددا بكأس أوروبا للأمم. أما من يشتغل برصد النظريات ومناهج وأساليب اللعب المستحدثة فيرى الأسطورية فيما يأتي به منتخب إسبانيا من تطابق خرافي بين المؤهل التقني للاعب وبين التوظيفات التي يقترحها بل ويفرضها أسلوب اللعب الذي يمكن أن نقول عنه أسلوب سهل وممتنع في ذات الوقت. بشّر منتخب إسبانيا بهذه المنظومة التكتيكية الخارقة وغير القابلة للإستنساخ في كأس أوروبا للأمم 2008 مع الداهية لويس أراغونيس، فقد وقفنا جميعا يومها على كرة قدم مختلفة في نصها وروحها، ليست لها علاقة بكرة القدم المنغلقة التي وضعت الماتادور الإسباني زمنا طويلا على الهامش، كرة قدم مصاغة بحرفية عالية، فيها ملح من كرة القدم التي بشّر بها نادي برشلونة وأصبح بها الفريق الكوني الذي ينال الإعجاب ويحصد الألقاب. ولأن أراغونيس كان هو الرجل الذي أوقد نار الأسطورة، فإن إسبانيا كانت محظوظة جدا، عندما وجدت من ينفخ في هذه الأسطورة ليعطيها الروح والحياة، بل وليجعلها من أكبر إبتكارات الفكر الإنساني، لأنه ما من شيء يرفض أن يكون ما يقدمه منتخب إسبانيا إبداعا إنسانيا.. أما من نفخ في هذه الأسطورة ومن رسمها على أخاذيذ الزمن الكروي الحالي شمسا دافئة فهو العجوز والمبدع فيسنتي ديل بوسكي، الرجل الذي لعب من زمن إليادة ريال مدريد على عهد جيلها الأنطولوجي والرجل الذي أعطى الريال كمدرب ما لم يعطه لها مدرب آخر غيره.. بكاريزما ذات وزن ثقيل وبقدرات فكرية رهيبة على الوصول إلى كل المناطق المعتمة توصل ديل بوسكي إلى تقديم منتخب إسباني هلامي توج بأعلى درجات الإستحقاق بطلا للعالم بجنوب إفريقيا متفوقا على سادة السحر والإبداع (البرازيل والأرجنتين) وعلى ملوك البراغماتية (ألمانيا)، وواصل الرجل النقش على حجر الإبداع فقدم منتخبا إسبانيا متطابقا خلال اليورو الأخير، حافظ على لقبه هذا أولا وقدم مختزلا لكرة قدم هذا العصر ثانيا، كرة قدم مهما بلغت من درجات في التعقيد التكتيكي لربح معارك كروية شرسة وضارية، فإنها تبقى مبهرة في سلاستها، في إنسيابيتها وفي إمتلاكها لعناصر السحر الفني والتكتيكي.. والذين يبالغون في ربط الإعجاز الكروي الذي يقدمه منتخب إسبانيا ربطا تعسفيا بهلامية الأداء الجماعي الذي يطبع في العادة كرة القدم التي بها تسيد برشلونة الزمن الحديث، يصيبون المدرب فيسنتي ديل بوسكي بظلم كبير، فقد يجوز القول بأن منتخب إسبانيا إستعار تقنيا وتكتيكيا أشياء من برشلونة، وهو أمر بديهي لوجود خمسة لاعبين من برشلونة على الأقل في أي تشكيل أساسي لإسبانيا، لكن لا يجوز على الإطلاق أن نسقط من حساب القوة المدرب ديل بوسكي، بل سيكون من باب إزهاق الحق أن لا ينسب هذا الإعجاز الكروي الإسباني كله إلى الرجل الذي ينعث من صحافة إسبانيا بالرجل الحكيم. لم تكن مباراة النهائي أمام إيطاليا والتي شهدت سقوطا مريعا غير مسبوق للسكوادرا أزورا في مثل هذه المناسبات، لم تكن هذه المباراة وحدها هي ما يدل على عبقرية ديل بوسكي، على جرأته وتوازنه وعلى درجات الشموخ التي بلغها والتي تعطيه القدرة على التخيل وعلى الإبداع وعلى أن يأتي بالبدر في الليلة الظلماء واختراع الحلول المستحيلة، بل كانت كل المباريات الست التي خاضها الماتادور الإسباني عنوانا لعبقرية ديل بوسكي ولدرجة الإختمار والنضج التي بلغها في مقاربة الأشياء.. وكثيرا ما جنت صحافة إسبانيا قبل صحافة العالم على ديل بوسكي عندما شعرت بأن الماتادور أصيب بضيق في التنفس وبعدم القدرة على حسم المعركة في كثير من الجبهات التكتيكية، فقد هاجمته أحيانا لأنه لا يلعب بمهاجم صريح وهو من يملك ثلاثة قناصين من العيار الثقيل طوريس، نيغريدو ولورانتي، ثم هاجمته لأنه لا يلعب بمهاريين على الأروقة وهو من يملك أجنحة نفاثة، مع أن الحقيقة هي أن ديل بوسكي يرى دائما الأمور من زوايا مختلفة، فهو من يمسك بالمقود، هو من يعرف أي مركب يتوفر عليه، ما هي سرعة الرياح، وفي أي إتجاه لابد وأن يسير ليربح المعركة.. وكان أروع ما أبدعه ديل بوسكي من أسلوب لعب معدل ومن تنشيط تكتيكي هو ما وقفنا عليه جميعا في مباراة إيطاليا، ليس فقط عندما عاد للعب بسيسك فابريغاس وليس بمهاجم صريح.. ولكن أيضا في الطريقة التي وجه بها المباراة وإيقاع اللعب، عندما نزع عن منتخب إيطاليا شرارة الإبداع بأن فرض أجناسا كثيرة من الرقابة على الملهم أندريا بيرلو وعندما توصل إلى ربح أم المعارك التكتيكية على مستوى وسط الميدان. والحقيقة أننا كنا في طريقنا للقول بإفلاس تكتيكي لليورو الأخير بعد الذي شاهدناه مجسدا في كثير من المباريات من عطل في إبداع منهج لعب متطور، عندما خرج الماتادور الإسباني من ثغوره ليطلق في سماء البطولة الأكثر مشاهدة بين كل البطولات القارية شهبا جميلة، أعادت الثقة لمناصري كرة القدم الجميلة.. نعرف من أين إستوحى الإسبان هذا الفكر الكروي الخلاق الذي هو جزء من فكر رياضي أحدث ثورة في المنظومة العالمية، نعرف أن ما إستحق عليه المنتخب الإسباني كل هذه الألقاب وكل هذه القلادات ووشاحات الإعجاب هو نتاج لعمل في العمق إمتد لسنوات كثيرة ورافقه صبر أيوب، ولكن السؤال الذي نعثر على صدى منه كلما حلقنا نحو القراءات النقدية ليورو 2012 هو: إلى أي مدى يستطيع منتخب إسبانيا أن يصل بهذه الكرة الجميلة التي يرفع شعارها ويملك أسرارها؟ هل نتصور أن هناك شوطا آخر يمكن أن يمشيه الإسبان ليعطوا الإمتداد زمنيا لسلطتهم وسطوتهم على الكرة العالمية؟ أما ما نسأل عنه أنفسنا نحن المغاربة فهو: كيف نستطيع أن نتغدى من إصرار وعبقرية الإسبان في طبع الكرة العالمية بطابعهم السحري؟ كيف نستطيع أن نستعير من جيران وحلفاء لنا روح التحدي؟ الجواب هو: أن نتواضع وأن نبدأ في تعلم اللغة الإسبانية..