الأسود أضاءت بيلفاست لو إخترنا أي زاوية لننظر منها إلى مباراة الفريق الوطني الودية أمام منتخب إيرلندا الشمالية ببيلفاست فإننا سنجمع بمنتهى الأمانة وبمطلق الصدق على أن المحك التجريبي كان مفيدا وعميقا وعليه نستطيع أن نؤسس إقتناعنا الكامل بأن أسود الأطلس واصلوا تدريجيا خروجهم من النفق المظلم الذي دخلوه قبل سنتين وتجرعوا فيه من الخيبات والصدمات والسقطات، ما ضيع الثقة في القدرات وفي المستقبل.. من الزاوية التقنية والتي هي عماد أي فكر لأي مدرب كان الفريق الوطني نديا مثل رذاذ المطر الذي صاحب المباراة، وكان سخيا في بذل الجهد الجماعي على الخصوص لتقديم عرض كروي متوازن ومستجيب لكل الإنتظارات.. أبدا لم يتأثر الفريق الوطني بالغيابات الطارئة لكل من بوصوفة، كريتيان بصير ومنير الحمداوي، وثلاثتهم عناصر وازنة في المحتوى البشري وأيضا لغياب عادل تاعرابت الذي غيب نفسه على نحو غريب، وأستطيع القول أنه صاغ لنا مباراة أكثر من نموذجية إن في دفاعيته أو في هجوميته، إن في ترابط خطوطه أو إحترام أدواره، إن في مده الهجومي أو في جزره الدفاعي، إن في انضباطه أو في تأثيره القوي على عمق المباراة.. جعلنا الفريق الوطني على طول الجولة الأولى بالخصوص لا نجد للإيرلنديين موقعا من الإعراب التقني أو التكتيكي، فقد كان إنتشار الأسود جيدا وأكثر منه كانت جرأتهم كبيرة في إقتحام منطقة الإيرلنديين، وحتما لو كانت هناك جرعة إضافية لهذه الجرأة، لكنا بمنتهى الأمانة ننهي الشوط الأول متفوقين بهدف أو بهدفين.. من الزاوية النفسية كان هناك تصريح علني بأن الفريق الوطني تعافى كليا من أسقامه وتخلص كليا من ترسبات الإخفاقات، وقد أكدت ذلك طراوته البدنية وجاهزيته التقنية وتحكمه الكبير في المباراة، وهذا كله يقول بأن اللاعبين تحرروا من أثقال نفسية رهيبة.. من الزاوية الإستراتيجية هي مباراة في صورة محك قدمت الفريق الوطني وهو ينازل منتخبا مصنفا في المركز 42 عالميا بالفريق الذي يمكن المراهنة عليه.. المراهنة تحديدا على أن يطابق هذا الفريق نفسه وبأن يطابق حاضره وهو الذي يتمتع بوجود لاعبين مخضرمين وشباب في قمة جاهزيتهم وتنافسيتهم.. وعندما تنتهي المباراة إلى تعادل الأكثر إيجابية منه لو كان في صورة فوز، لأن الفريق الوطني إستحق ذلك، فإن ذلك معناه أن الناخب الوطني غيرتس وهو يقود أول مباراة تجاوز صدمة الهزيمة التي غالبا ما يكون لها تأثير على النفسيات، حتى لو كان غيرتس قد شهر كثيرا قبل المباراة بأن النتيجة هي آخر شيء يفكر فيه.. ولو نحن خرجنا من تحليل الفريق الوطني جماعيا وقد توصلنا إلى أنه قدم أمام إيرلندا الشمالية نفسه كفريق معافى تقنيا ومتعطشا فنيا ومنضبطا تكتيكيا لصياغة حاضر كروي جديد، لو نحن خرجنا من تحليل الأداء الجماعي وقرأنا مردود اللاعبين كل في موقعه، سنجد أن المباراة قدمت لنا أشياء كثيرة، منها ما هو تأكيد لقناعة كانت راسخة لدينا، ومنها ما هو ميلاد رائع وكبير للاعبين يرمزون بقوة إلى الوجه المستقبلي الذي سيكون عليه الفريق الوطني.. لم يكن نادر لمياغري لطبيعة المباراة ولتسيد العناصر الوطنية أمام إختبارات كبيرة وإن كنا نثق في قدراته، فالرجل لم يحتج إلى إخراج كافة مؤهلاته بالنظر إلى كلاسيكية الأداء الإيرلندي، في حين كانت نقطة الضوء الأولى هي أن رشيد السليماني وقد إستقر به الحال في الرواق الأيمن لغياب كريتيان بصير وبدر القادوري العائد بنهم كبير أمنا للفريق الوطني حضورا وازنا على مستوى الأظهرة، ولو أن الأداء لم يكن بالصورة النموذجية التي نأملها، إلا أن هناك ما يقول أن الفريق الوطني أمن كثيرا هذه المنطقة، ليصبح الحزام الدفاعي موثقا بالتكامل الكبير الذي أصبح عليه كل من بنعطية وقنطاري في بناء العمق الدفاعي.. والأكيد أن الخط التصاعدي الذي يوجد عليها القشاش عادل هرماش يمنحه مطلق الحق في أن يكون ضلعا أساسيا في ثنائية وسط الإرتداد إلى جانب العميد الحسين خرجة الذي قدم مباراة نموذجية طابقت كثيرا الجانب اللياقي وهو العائد لثوه من إصابة.. ولئن كان يونس بلهندة وسط ميدان مونبوليي في أول مباراة له مع الأسود قد إجتهد كثيرا في تقديم توابله الفنية التي ستغني لا محالة طبخة الفريق الوطني، فإن الصورة القوية والمؤثرة التي ظهر بها ناصر شاذلي لاعب توينتي الهولندي كانت إحدى أكبر ملاحم هذه المباراة.. لم يشعرنا ناصر بأريحيته وكارزميته وتلقائيته أيضا بأنه يلعب أول مباراة ويبحث لنفسه عن هامش داخل مباراة قوية ليعرض سحره، فقد إقتحم ناصر المباراة والأجواء والطقوس وأعطى الهجوم المغربي ملحا وبهارات غيرت الشيء الكثير في الطعم وفي المذاق.. لقد جعل ناصر شاذلي مروان الشماخ يستمتع بكل ما تحصل عليه في بيته الأنجليزي داخل أرسنال، كما جعل يوسف حجي نشيطا في إشعال الجهة اليمنى، والأكيد أن هؤلاء لو أعطوا مساحات زمنية ومباريات أخرى لتحولوا إلى قوة ضاربة تصعق دفاعات أقوى المنتخبات.. إنه وصل أمان بريطاني وجواز ثقة إيرلندي تسلمهما الفريق الوطني الذي خرج من محك بلفاست متعادلا في النتيجة ومنتصرا في مواقع ومواضع كثيرة، وهو ما يبحث عنه كثيرا المدربون عندما يستدعون للعب المباريات الودية.. مؤكد أن غيرتس سيعيد عشرات المرات قراءة المضمون الفني والتكتيكي والبدني لمباراة بيلفاست، بعد أن يكون قد سعد بالنتيجة أولا وبالإستعداد الكامل الذي أبداه أسود الأطلس لكتابة صفحة جديدة.. --------------- نقدر كمغاربة أن الفريق الوطني قدم بكل مكوناته تضحية كبيرة لينجز ما هو من صلب الواجب الوطني ويحضر إلى إيرلندا الشمالية ليواجه منتخبها مساء الأربعاء الأخير في لقاء ودي بينما كنا جميعا في يوم عيد ننعم بساعة هنية مع العائلة. كان الفريق الوطني في ذلك كله مكرها، فقد صادف يوم الأربعاء عيد الأضحى المبارك وتاريخا مدرجا في قائمة الإتحاد الدولي لكرة القدم لإجراء المباريات الودية، وكان لزاما لأحكام التحضير للقادم من الإلتزامات الكروية أن يضحي لاعبو الفريق الوطني بالجلوس إلى أفراد عائلتهم في سبيل أن يغتنموا فرصة الإحتكاك وجس النبض، خاصة وأنها كانت المباراة الأولى التي أدار فيها الناخب الجديد إيريك غيرتس أسود الأطلس. وما كان للاعبين ولأفراد الطاقم إكراها كرويا كان أيضا لجريدة "المنتخب" إكراها مهنيا، فقد تنازل الزميلان عبد اللطيف أبجاو وعبد القادر بلمكي عن حقهما الإنساني الكامل في مشاركة أفراد العائلة فرحة العيد ليكونا عينا لكل قراء "المنتخب" على كل صغيرة وكبيرة ميزت رحلة الفريق الوطني إلى بيلفاست، ويقدمان بسخاء كبير مواكبة إحترافية للحدث تجدونها في الصفحتين الرابعة والخامسة من هذا العدد الذي بذلنا فيه جهدا كبيرا لنضعه بين أيدي القراء بدء من يوم الجمعة بشكل إستثنائي، برغم أن المطبعة وشركة التوزيع كانا في عطلة عيد.. --------------- وهذه التضحية التي هي من صميم الواجب المهني ومن صلب الإلتزام الأخلاقي ومن وحي ما يربطنا بالقارئ منذ خمس وعشرين سنة من وشائج قوية تقوم على الصدقية وعلى المصداقية، لا نقدمها اليوم بشكل إستثنائي، فهي قاعدة أسسنا لها منذ ربع قرن، فما تركنا أبدا فرصة تمر لنؤدي واجبنا الوطني والمهني من دون أن نقيم وزنا لأية تضحية من أي نوع كانت مادية أو معنوية.. ويحزنني أن بعض الذين تعودوا على الصيد في الماء العكر ورمي الآخرين باتهامات باطلة من دون مراعاة للوازع الأخلاقي والمهني قد شهروا بالتضحيات الجسام التي تقدمها جريدة "المنتخب" من أجل الإنتصار دوما لمصداقيتها وحرفيتها وإحترافيتها بالتواجد دوما في مواقع الأحداث وبخاصة عندما يتعلق الأمر بمباريات يجريها الفريق الوطني خارج المغرب، وقالوا بلا إستيحاء وبلا خجل أن جريدة "المنتخب" تحصل من الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم على دعم سري لتتواجد في كل مباريات الفريق الوطني خارج المغرب ولفقوا تهما رخيصة وبديئة وصمموا حكايات من نسج خيالاتهم، مع أن الحقيقة القاسية عليهم والصادمة لهم، هي أن "المنتخب" الجريدة المواطنة التي رفعت شعار الإنتصار للقارئ أولا وأخيرا غطت منذ بداية إصدارها يوم 29 أكتوبر 1986 ثمانين بالمائة من مباريات الفريق الوطني في كل قارات العالم من مالها الخاص، ولم تترك لموفديها وهم كثر ويستطيعون أن يشهدوا بذلك هامشا ولو ضيقا للإسترزاق والتسول أو الإستجداء بإسم الواجب الوطني. أعرف يقينا أن قارئنا الذي نفخر بأنه بالذكاء الذي يستطيع به أن يميز بين الأشياء وبالمناعة التي تصد عنه هجمات الحاقدين، لا يريدنا أن نقيم الحجة على حقائق يؤمن بها، ولكنني آثرت والمناسبة لها قدسيتها أن أكرر هذه الحقائق أمامكم لأن في التكرار فائدة، حتى لو أنه لا فائدة ترجى من الذين عميت قلوبهم والعياد بالله.