سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«المنتخب» تعيد كتابة سيرة أسطورة كروية مغربية مصطفى حجي المعزوفة الكروية الخالدة
الإنسان والفنان الذي فلسف حبه للوطن
الإنضباط والتنشئة الإحترافية ساعداه على إنجاح مسيرته الكروية
كلما دنت الشمس من المغيب إلا وتركت شفقا جميلا يحول لحظة الغروب إلى ملحمة إبداع لا تضاهى، وكلما أرادت السماء أن ترسل مطرا إلا وأنبأتنا بفاصل من البروق الضوئية المهيبة، وكلما تأهب القمر للرحيل إلا واستدار ليصبح لحنا من الضوء تغنيه السماء، لذلك عندما يقرر مصطفى حجي الأنشودة المروية الجميلة أن يضع فاصلا أخيرا يختتم به مشوارا كرويا ساحرا، فإن ذلك يستوجب منا أن نقف لنفلسف لحظة الإعتزال، ولنسرد مطر العطاء وبروق الإبداع، ونرسم للأجيال الحالية، للتاريخ ولأمانة الحكي والسرد حجم القمر الذي أضاء لسنوات عرين أسود الأطلس وسماء كرة القدم الوطنية. بالقطع لم يكن مصطفى حجي لاعبا عاديا، ليكون إعتزاله اللعب أمرا عاديا، ولم يكن في أرضية الملعب، في كل تفاصيل الزمن الكروي الجميل الذي كان أحد صناعه مجرد لاعب عابر في زمن عابر لنطوي هكذا صفحته من دون أن نخلده في الذاكرة، وفي الماضي والحاضر والآتي من مشهدنا الرياضي، فالرجل الإنسان فيه والمبدع، الغيور فيه والحالم، هو أحد أكبر رموز مجدنا الكروي والرياضي على حد سواء، هو فاعل قوي في تفاصيلنا الكبيرة والصغيرة، لذلك لا يمكن أن يكون خبر إعتزاله كرة القدم إحتراما لطبيعة كونية تقول بأن لكل شيء بداية ونهاية، خبرا عاديا، لا يستفز ملكات الإعتراف والتاريخ والوقوف عند مشواره الكروي، لتحويله إلى مادة تدرس إلى شخصية تخلد، وإلى موهبة كروية خارقة تحيلنا على حقيقة أن هذا البلد بطبيعته وبسجاياه، بتاريخه وبعراقته معين لا ينضب ورحم لا يصاب أبدا بالعقم.. حجي الإنسان قبل أن يكون مصطفى حجي لاعبا متفردا بفنه، وبإبداعه ، وقبل أن يكون معزوفة كروية جميلة تطرب لها الأجيال، فهو إنسان بما تفيض به الإسنانية من أريحية أولا، من تواضع ثانيا، من إلتزام ثالثا ومن تربية أصيلة ومواطنة متأصلة رابعا.. ولعل ما أوصل مصطفى حجي لأن يملك قلوب الناس ويتربع على عرش كرة القدم الوطنية في العقدين الماضيين هو عمقه الإنساني، فبرغم أنه صاحب صغيرا والديه إلى فرنسا، وأقام بها وتربى في بيئة غير بيئة والديه وتشبع بثقافة غير ثقافة بلده، فإنه حافظ على أصالته وعلى عرقه، فجاء صورة عاكسة لنخوة أهل الأطلس، يعشق بلده ويتنفس حبه.. ولعل هذا العمق الإنساني هو ما أضغى مسحة مميزة على شخصية مصطفى حجي، فانعكس على جوانب كثيرة في شخصيته، لنجعل منه رجلا ملتزما أولا ومنضبطا ثانيا ومتوازنا ثالثا. وبرغم كل الذي يجنح إليه النجوم عادة مع تعاظم شهرتهم من مسلكيات تأخذ طابع الشذوذ، إلا أن مصطفى حجي برغم أنه لعب مونديالين، وبرغم أنه سجل أهدافا خرافية وبرغم أنه أصبح سنة 1998 أميرا على إمارة الكرة الإفريقية التي تعج بعشرات الأساطير، إلا أنه ظل مخلصا لتواضعه ، ملتصقا بأريحيته، كابحا لجماح الشهرة، ما ساعده على أن يعمر طويلا في ملاعب الإبداع، فيتنقل بين كبار الأندية العالمية، بل ويجد سهولة بالغة في تقمص الأدوار والتنقل بين الثقافات الكروية والإستئناس بمحيطات مختلفة.. لقد كان لمطصفى حجي حصانة ذاتية ومناعة مكتسبة ضد الإغتراب بكل أشكاله. حجي الوطني إن الإعتزاز بالإنتماء للوطن كان من أكبر خصوصيات التربية التي نشأ عليها مصطفى حجي، فقد ربطه والده ربطا مقدسا بالوطن حتى وهو بعيد عنه، لذلك لم يجد مصطفى حجي أي صعوبة في أن يلبي ما جاء ذات يوم من سنة 1993 في صورة نداء الوطن. كان مصطفى يافعا في ربيعه الثاني والعشرين عندما استدعي للعب للفريق الوطني، وبرغم أن ذلك جاء متزامنا مع دعوته للعب مع منتخب أمل فرنسا وهو الذي قدم إشارات مع ناديه نانسي على وجود قوة إبداعية هادرة في حجمه الكروي، إلا أنه وبدون تردد قرر اللعب للفريق الوطني، وقد لاحظنا كيف أن الفتى الأطلسي لم يتمالك دموعه، وهو يستمع للنشيد الوطني عندما لعب أول مباراة رسمية له مع أسود الأطلس سنة 1993 وهم يواجهون منتخب زامبيا في مباراة فاصلة أهلهم الفوز فيها إلى كأس العالم 1994 بالولايات المتحدةالأمريكية. ولم تبرز وطنية مصطفى حجي وهو الذي حرك وجدان العديد من أنباء المهجر من الجيلين الثاني والثالث، بقراره اللعب للفريق الوطني دون سواه، بل إنها ستبرز على طول السنوات التي قضاها خادما وفيا لفريقه ولوطنه، إذ كان حريصا على تلبية نداء الناخب الوطني، لا يتمارض، لا يختار مبارياته، لا يساوم ولا يقايض بالواجب الوطني، بل إنه كثيرا ما كان يحترق في صمت كلما ساءت أحوال الفريق الوطني وتراجعت نتائجه.. لذلك لم يكن غريبا أبدا أن يحظى مصطفى حجي في مسيرته كلاعب بإجماع الحب والتقدير والإعجاب لشخصه ولوطنيته ولعشقه حد الوله بهذا الوطن الرائد. حجي الفنان لا أستطيع أن أجمل أو أن أختزل المساحات الإبداعية في أداء مصطفى حجي، صحيح أن الفتى الصغير تربى في بيئة كروية مشهود لها بالكفاءة، فقد نشأ مصطفى حجي في مدرسة نانسي التي أعطت نجوما عالميين من أمثال ميشيل بلاتيني، إلا أن المؤكد هو أنه كانت بذرات وجينات إبداعية موروثة هي من صميم الإبداع الأطلسي، بدليل أن ذات العائلة ستعطينا بعد ذلك يوسف حجي الذي قدم صورة أخرى عن هذا الإبداع، كما أنهما تستعد لأن تعطينا سمير حجي الإبن البكر لمصطفى.. ولئن كان مصطفى حجي بعد اليوم من أساطير كرة القدم الإفريقية بحسب الخبراء والمؤرخين ومن أروع ما أنجبته كرة القدم المغربية، فإن ما وضعه في مرتبة الأسطورة أنه قدم نفسه كلحن كروي متفرد في طبيعته، والتفرد يأتي من أنه بشخصيته القوية، باستعداده التلقائي للبذل وللعطاء من دون حساب وبإخلاصه في عمله كمبدإ نشأ وتربى عليه، وازن على نحو رائع بين الملكات الفنية الموروثة والمكتسبة وبين ما يحتاجه أي حضور من طبيعة أنطولوجية.. لهذا كله جاء مصطفى حجي كلا فنيا لا يقبل التجزيئ ونغمة كروية يصعب تقليدها أو إستنساخها، لقد مزج بين اللمسة الرائعة وبين المراوغة الذكية، وأعطى من روحه ومن لياقته كل ما يستطيعه حتى تكون الجملة الكروية التي ينطق بها كاملة مكمولة غير ناقصة.. وكثيرا ما كنت أستمع لكبار المدربين يصفونه ويقولون: «إنه قوة فجائىة، بل وصادمة للمنافسين، سرعته ودقته وقوة إختراقاته تجعل منه لاعبا مميزا من الصعب جدا تطبيق رقابة لصيقة عليه، إنه يملك القدرة الذهنية على أن يكون سخيا في عطائه ومتفردا في أسلوبه..». حجي النجم هل كان مصطفى حجي نجما رغم أنفه وضدا عن إرادته؟ وهل عاش مكرها في جلباب النجومية؟ مساحات التواضع وحجم التكثم فيه وتبسيطه للأشياء تقول بأن مصطفى حجي أعطى صورة مختلفة عن النجم، فهو يملك القلوب، يستأثر بالإعجاب ويفتح عنوة جزر الدهشة الموصدة.. ومع ذلك لا يشعر مصطفى حجي برغبة من أي نوع للصعود إلى البرج العاجي، إن عشقه للبساطة، تعلقه بوطنه، وسخاؤه في العطاء كلها أشياء جعلته لا يتعالى، إنه يتسامى في الإبداع وفي الإمتاع ولكنه يظل حيث هو بسيطا و متواضعا، خلوقا ومنفتحا على الناس.. أبدا لم أسمع وقد عاشرت مصطفى لسنوات كثيرة ورافقته في رحلات كثيرة، أنه تبرم أو تأفف من مقابلة صحفي، أو تعامل بجفاء مع مسؤول، أو رفض بتبجح أن يخدم عاشقا إما بتوقيع أوطوغراف أو أخذ صورة تذكارية. وكان أن نال مصطفى حجي ذات أوقات بخاصة عندما تستعصى النتائج على الفريق الوطني، الكثير من النقد الموجع والمبرح، الذي كان في كثير منه ظلم وتجن عليه، إلا أنه أبدا لم ينتفض غاضبا، لم يقاطع صحافة أو مسؤولا، بل ظل حريصا كالجبل على أن يبقى في مكانه، ثابتا على المبدأ، مبدأ كل شيء من أجل مصلحة الوطن يهون.. هكذا كيَّف مصطفى حجي النجومية على مقاس أخلاقه وتربيته واحترافيته، فاستحق أن يكون خالدا في القلوب خالدا في الذاكرة وخالدا في سجل التاريخ..