مدينةٌ كرشاء، إنّها في الشّهر التّاسع. لا تتحرّكُ إلا بعناءٍ. منذ أيّامٍ أصبحَت شَاحبةً، مشَتّتةَ التّركيز، وغامضةً. ترتدي جلبابًا فضفاضًا أغبرَ، دون أن يستر كَرِشَها المتبيّنة. توقّعتُ أن يكون الجنين فجرا جديدًا وجميلا. الشّمس في كَبد السّماء، والمدينة مُمدّدة على شاطئ البحر. من لَم يتحمّل المشهد توجّه إلى التّلة ليتابع عن بعد. زعَم أحد الواقفين أنّ الجنين كَان راگدًا، وأنّ له شرعيّة تاريخيّة. «نتيجة تراكُم «، يشرح آخر. لكنّي لَم أومن قطّ بمقولة الرّاگد. مجرّد فرية مُجتمعيّة لِجعل الفعل مشروعًا وشرعيًّا. وإذا كان متراكمًا، فالكلّ كان مدركا أنّ المدينة ولا شكّ سائرة إلى حمل، وكرشها ستكشف يوما ما عن واقع جديد. إنّ وليدًا لا بدّ أن يكونَ. حركة غير عاديّة، وكبّة في كلّ مكان. ربّما تضع ما في بطنها الآن. إنّها فرصة لدخول التّاريخ. أن أسجّل اللحظة الحاسمة. عليّ أن أتابع عن كثب. الشّمس لَم تترك كبد السّماء، كأنّها تصرّ على مواكبة ما يكون. دخلت متسلّلا من باب الإشارة، إنّه أكثر أمانًا. لَم تكن الحراسة الأمنيّة مشدّدةً عليه كما الأبواب الأخرى. للمدينة ? كما للتّاريخ - عدّة أبواب، واعتدت أن أدخل وأخرج من باب الإشارة. يدخل منه أناس لا يتكلّمون لغة العامّة، ولا لغة المناطقة والعلماء، و لا السّاسة والتّجار. أفضّل هذا الباب الهامشيّ، والممتنّع في إشاريّته. من يدخل منه يتحدّث في كلّ شيء. الدّاخل منه يُشيرُ فقط، و لا يعبّرُ. من يريد أن يعبّر يدخل من باب العِبارة. إنّه باب معروف أيضًا، والحكّام يعادون الدّاخلين منه، والنّاس لَا يبالون به، إنّه باب الفلاسفة وسلالتهم. أحيانا كنت أدخل من هذا الباب. وكان يفترض لكي أعرف وضعيّة المدينة، وأفهمها، وأسجّل تفاصيلها، أن أدخل منه. لكنّي فضّلت أن أدخل من باب الإشارة، لأنّ الحراسة الأمنيّة مشدّدة على باب العبارة، فقد يشكّون في أنّي مشارك في حبل المدينة، أو ربّما مِمّن يريدون إجهاض الجنين، فأنا لَم أكُن أعرف من يسكُن العلبة السّوداء. دخلتُ إذن.. ولَم أتبيّن معالم الوضع.. فأكملتُ السّير. الدّماء في كلّ مكان. الكتاباتُ العدائيّة على الجدران.كلّ هذا الخليط من الأفكار والإيديولوجيّات والطّموحات والمصالح. لا شكّ أنّ معاناة المدينة لا توصف. أين كنت حتّى أجهل كلّ هذا. أن أجهل أنّ خلف البسمات والتّحيّات الموزّعة صباح مساء، خلف الأعراس والأعياد والمواسم، كلّ هذا الكيد والحقد. أبصرتُ الدّبابات الرّماديّة تتقدّم في الشّوارع. وأبصرتُ العيون اليابسة في الوجوه البريئة. هذا الخليط لايقدِّم فكرةً واضحةً عن الوضع. لَم أكُن أعرف من يحكُم، ولا مصير المدينة. ولكن كنت أريد أن لا يموت الجنين. كما كنت أريد أن يكونَ ما أحلم به. أنْ يكونَ سربًا من الفراشات المرحة. أنْ يكونَ شلالا من الفساتين القزحيّة. أنْ يكونَ كينونةً بسيطةً منسجمةً. أن يكون فجرًا جميلا ولكنْ «هنا» مملوء بالرّماد. دماءٌ في كلّ مكان وشعاراتٌ عدائيّة. يسُود البؤسُ في»هنا». وأين «هنا»؟ ( جاء الصّوت من أعلى، فلم أدر حقّا صاحبه، لأنّي أجهل من يحكم الآن). «هنا» تحت الشّمس. أيوجد «هنا» آخر؟ أتحدّث عن المدينة الممدّدة على ساحل البحر. المدينة الكرشاء. المدينة التي ستضع حملها، وربّما وضعَته، فالنّظرة من الدّاخل لا تسمح بالرّؤية الشّاملة. عليّ أن أخرجَ مرّة أخرى إلى التّلة لأرى الصّورة كاملةً. لن أظلّ مع الخطر واللايقين وانعدام الرّؤية. لَم أكن أعرف من يحكم، وإن سُئلتُ أمَعَنا أم ضدّنا... بماذا أجيب؟ أفضل ألا أكلّم أحدا في ظلّ شروط مماثلة... في الكلام يكمن خطر سوء التّفاهم. حتّى المزاحُ لايسمحُ به والمرحُ لا يتسامحُ معه أيضًا. تذكّرت حكاية كونديرا وما حدث لَمّا أرسل لودفيك إلى حبيبته ماركيتا مازحا بطاقةً مكتوبًا عليها « التّفاؤل أفيون الجنس البشريِّ...»، فأدّت المزحةُ إلى عذابه وشقائه، رغم أنّه لَم يقصد الإساءة إلى التّوتاليتارية التي تنشر التّفاؤل بين الشّعب. إنّ الرشّاش لن يغضّ الطّرف عن المرح إن تَموضع ضدّ مصلحته. مجرّد سوء تفاهم، قد يجعل منّي مُتواليةً أنينيّةً في ألَم المدينة الكرشاء الممدّدة على شاطئ البحر. أنت معنا؟ نعم، فتتكلّم الرّصاصة. أنت معنا؟ لا، فتتكلّم الرّصاصة أيضا. قالَها الشّيخُ الأكبرُ: « بين نعم ولا، تطير الأرواحُ من موادّها، والأعناقُ من أجسادها». ثمّ إنّ خطبة ذاكَ الطّاغية لَمّا اعتلى تلكَ الرّبوة العالية لا تزال تطنّ: لا تجاوزوا فتجيزوا رقابكُمْ، ولا تشوّفوا فتعْوَرّ عيونكُمْ. إنّ لي عيوناً في عيونكُمْ، وآذاناً في ألسنتكُمْ، وأنوفاً في قلوبكُمْ، فاحذروني ومكري. إن كنتم غابةً أحرقتكُمْ، وإن كنتم بحاراً نشّفتكُمْ، وإن كنتم رياحاً سَكّنتكُمْ، ولي اليد الطّولى. فاعملوا فيما أرضى. وصوموني خيرٌ لكُمْ، كي لا أفطر على رمادكُمْ. وكلّ من يعتلي الرّبوة العالية في «هنا» يكشّر عن بلاغته بخطبة مماثلة. عليّ أن أكونَ حذرا، لِأنّي أريدُ أن أسجّل شهادةً للتّاريخ. وأريدُ أن أتعرّف على الوليد. ورغم صعوبة الأمر، أريدُ أن يكونَ الوليد ما أريدُه. أيمكنُ أن تتكوّن في «هنا» ؟ تزايد أنين المدينة، وقلت لابدّ أن أخرجَ، فلن أستطيع تسجيل أيّ شيء من هذا المكان. لايوجد في «هنا» إلا كائنات مسلّحة، وشعارات لاتعني لي شيئا. عليّ أن أخرج، وربّما أصابتني جرثومة الخوف أنا أيضًا، وقد تكون أصابتني منذ زمن بعيد. خرجت بسرعة، واتّجهت إلى التّلة، حيث مازال من تركتهم هناك مستكفّين ومستمرّين في النّظر إلى الكرشاء الممدّدة. كما أنّ الشّمس أبت أن تترك كبد السّماء. أيمكنُ أن تتكوّن الحرّية في «هنا» ؟ الوضع نفسه، لاشيء تغيّر مُذْ كنتُ. ولاشيء تغيّر أيضا منذُ كنتُ واقفا مع المستكفّين المتفرّجين. هذا الوضع: مدينة كرشاء ممدّدة على البحر، وألمها يتزايد، والكلّ ينتظرون ما يكون الوليد. فجأة رأيت المدينة تتحرّك، تكابد كي تقف. وبدأت كرش المدينة تنزل شيئا فشيئا، فساد الصّمت. وكلّما استكملت وقفتها كلّما تبيّن انبساط كرشها. بدت مدينة جميلة، رغم الدّماء العالقة بجلبابها. توجّهت إلى البحر، وغاصت في الماء المالح، ثم طفت، والجلباب ملتصق بجسدها، فبدت فاتنةً جدًّا. رأيت الجميع يبتسمون مأخوذين بجمالها. نسوا أمر الوليد، كذلك تخدعهم دائما. بعد كلّ أزمة تجتهد في تجميل صورتها، حتّى تبدو ممكنة، فيعود الجميع إلى حياته العادية، مأخوذا بنظرتها المتفائلة. الثّقة في الغد، ونسيان اليوم. البعديّ بدل الراهنيّ. دائمًا تخدع الجميع بنظرتها المتفائلة. مالت الشّمس قليلًا إلى الغروب. لم أسجّل أيّ شيء، فالمدن في «هنا» وإن كانت تبدو في شهرها التّاسع، لا تلد أيّ فكرة، و لا أيّ قيمة، ولاأيّ قفزة إلى الأمام. المدن في «هنا» تتنفّس الخوف. قيل «رأس الحكمة مخافة الله». وقيل «من خاف نجا». وقيل «من خاف لم تخف عليه أمه». وقيل «تركتُ ما أهوى لِما أخشى». وقيل «لَمّا نظر المنصور إلى شجرة خلاف قال للربيع وما هذه؟ قال، طاعةٌ يا أمير المؤمنين». الأشجار، والأحجار، والأنهار، كلّها ترتعد خوفا، وتطيع. هذا يخاف من هذا. المدن في «هنا» خوف. ولا يمكن للحرّية أن تتكوّن في غابة الخوف. كذلك كتبتُ حائرًا ومغتمّا حكاية مدينة في الشّهر التّاسع، والشّمس تميل إلى الغروب، وتغرق الجميع كما العادة في الظّلام. حكايةٌ كلّما قرأتها أشعر برحيق الدّفلى في الحلق وبخيبة أمل كثيفة جدّا.