في تقديمه لرحلة الوافد لصاحبها عبد الله بن إبراهيم التاسّافتي الزرهوني، يبرز الفاضل المرحوم علي صدقي أزايكو محقق الرحلة أهمية الرحلة في إعادة كتابة تاريخنا الوطني بقوله: "تعتبر الرحلة مصدرا متميزا؛ لأنها تختلف إلى حد كبير عن أدب التاريخ التقليدي في المغرب تتميز عنه بصفة عامة، على مستوى الموضوع والمضمون، وموقع مؤلفها تجاه الأحداث التي يرويها، وتجاه صانعيها هذه الملاحظات يمكن التوسع فيها عند الحاجة، لإبراز حقائق تاريخية شبه متجاهلة، لا تكاد تتطابق مع التي يستعرضها الإخباريون المغاربة في كل العصور؛ فإن كان هؤلاء الأخيرين يختزلون عمليا الكتابة التاريخية لتصبح عبارة عن وصف أفقي لأعمال من بيدهم السلطة، فإنهم لا يتمكنون من الحدث التاريخي إلا تمكنا سطحيا، وغالبا ما لا يحتفظون منه إلا بالمظهر الحكائي الغريب، سواء كان واقعيا أو متخيلا". وإذا كان بعض مؤرخينا اليوم يرفضون اللجوء إلى مصادر أخرى تمكنهم من إتمام أو تصحيح ما تزودهم به الكتابات الرسمية، يحاولون حقا، وبجهد كبير، أن يستخرجوا من هذه الكتابات الرسمية أقصى ما يمكن من الوقائع العرضية المجهولة، فإنهم غالبا ما ينتهون في آخر المطاف، إلى قبول إطارها العام ووجهتها القصوى، وبذلك يبقى تاريخنا مبتورا تنقصه جوانب هامة، نحن في أمس الحاجة إلى معرفتها. في بلد تغلب فيه الثقافة الشفوية كبلدنا، حيث تتميز الكتابة التاريخية في آخر الأمر بكونها ناقصة كما وكيفا لا نرى كيف يسمح الباحثون لأنفسهم برفض الاستعمال المفيد والبناء للوثائق الشفوية واللغوية والاثنوغرافية والسوسيولوجية، والتي لها علاقة بدراسة أسماء الأعلام، في مجال الدراسات التاريخية. إن الرحلة تعتبر بالفعل سردا حيا ومثيرا لوضعية تاريخية معاشة، تروي كما لوحظت، بلغة تجهل كل الأساليب المنمقة التي نصادفها في الكتب الأخرى، وإنها تتحدث لنا عن عالم ليست فيه للتاريخ، ولا للّذين يصنعونه أي صفة خارقة للعادة، أناس يصنعون التاريخ؛ لأنهم يمارسون الحياة؛ والتاريخ الذي ينجز لأنه ضروري ليس إلا صفحة قد انطوت من حياتهم اليومية. إنه تاريخ متواضع ولكنه حقيقي، تاريخ بسيط في الظاهر ولكنه عميق؛ لأنه مرتبط بحياة الناس، تاريخ لا تنشط حركيته إلا المشروعة: تحقيق الأمن والسلام، والوقوف في وجه كل أشكال الهيمنة، وتحقيق التوازن الضروري لحياة الجماعة.. ضمن هذا الأفق الرحب يأتي إخراج رحلة الوافد لصاحبها عبد الله بن إبراهيم التاسّافتي إلى الوجود.. وقد طبعت الرحلة سنة 1992 ضمن منشورات جامعة ابن طفيل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة. وقبل أن نستخلص بعض الفوائد التاريخية والاجتماعية من رحلة الوافد للتاسّافتي أرى أن أعرف باختصار بهذا الفاضل المجهول الذي خلف واحدة من أمتع وأفيد الرحلات في تاريخ الغرب الإسلامي. إن رحلة الوافد لا تعطينا معلومات تساعد على التحديد الدقيق لتاريخ ولادة عبد الله بن إبراهيم الزرهوني، غير أنه يمكن حصره بصفة عامة في الربع الأخير من القرن السابع عشر، إن هذا الافتراض يبدو ممكنا لسببين اثنين: أولهما أن والد المؤلف ازداد (سنة 1070ه/1659م)، ومن المحتمل جدا أن يكون قد تزوج بين الثامنة عشر والعشرين من عمره، إذ ليس هناك دليل يثبت أن عبد الله بن إبراهيم الزرهوني التاسافتي قضى وقتا طويلا في طلب العلم فأخره عن الزواج، حسبما استخلصه المرحوم علي صدقي أزايكو في مقدمة تحقيق رحلة الوافد. من المعلوم أن مؤلف رحلة الوافد ولد بتاسفت، غير بعيد عن تينمل الموحدية، وزاوية تاسافت كانت ضريحا للوالد المؤسس ومدرسة في آن واحد، ففيها إذن حصل عبد الله بن إبراهيم الزرهوني المبادئ الأولى في اللغة العربية وفي العلوم الدينية. إن دور تينمل على هذا المستوى لا يمكن تجاهله، فزيادة على تأثير مجدها التاريخي والديني، كانت حسب رحلة الوافد مكان التقاء يجتذب الطلبة والفقراء سواء من منطقة وادي نفيس أو من خارجه، وكانت خزانتها في النصف الأول من القرن الثامن عشر لا تزال تضم كتبا يرجع عهدها إلى العصر الموحدي. وفي هذا الصدد كتب التاسافتي في رحلة الوافد ص: 60-61 ما يلي: "وقد شاهدنا تصانيفه [ابن تومرت] الموضوعة في فن التوحيد المفروضة على أهل التوحيد، وغيرها من رأى شغل بنيان مسجده العتيق الذي بتينمل وأسفار خزانته الموضوعة فيه لتدريس العلوم وسرد الحديث، تنبئه عن خبر ما قلنا". إن عبد الله التاسّافتي يشير في رحلته إلى أنه كان لا يزال صغير السن في (سنة 1120ه/1708م) قد يكون عمره آنذاك حوالي عشرين عاما، وفي الرحلة إشارات تؤكد ذلك؛ منها على سبيل المثال كونه أقام في مراكش، وفاس من أجل الدراسة قبل (سنة 1708 بسنتين)، وكونه ذهب إلى المشرق لأداء فريضة الحج (سنة 1121ه/1710م)، وكونه قام بزيارة منطقة أغبار بالأطلس الكبير الغربي (عام 1122ه/1711م)، ولأنه أخيرا كان في إقامة دراسية في الزاوية الناصرية بتامكروت (سنة 1120ه/1708-1709م). أما انتقاله داخل منطقة نفيس الجبلية، فقد اقتصرت على الزيارة التي قام بها "لصالحي مدينة تنمل" (سنة 1111ه/1700م)، والتي كانت أولى زياراته لهم، وعلى أخرى قام بها (سنة 1120ه، 1708-1709م) لضريح الولية للا عزيزة، في بلاد إيسكساوان أوسكساوة، الواقعة شمال غرب تينمل؛ بالإضافة إلى التي قام بها إلى أغبار في أعلى وادي نفيس. إن التاسافتي لا يذكر في رحلته أنه قام بسفر ما قبل (سنة 1706م) خارج منطقة تينمل وتاسافت، هذا ما يدعو إلى الاعتقاد أنه قضى فترة طفولته وشبابه الأول بمسقط رأسه تاسافت. ويظهر من خلال رحلة الوافد أن التكوين العلمي لعبد الله التاسّافتي الزرهوني مر بمرحلتين أساسيتين: الأولى منهما تمت داخل الجبل، أي في منطقة نفيس وسوس الأعلى، وتافيلالت أيت تامن، ثم بوادي درعة قرب زاكورة، أما الثانية فهي عبارة عن إقامة قصيرة نسبيا بكل من مراكش وفاس؛ لأنها لم تدم إلا ما يقرب من أبع سنوات على أكثر تقدير. تلقى التاسافتي مرحلة من تعليمه في تافيلالت أيت تامنت؛ وقد أصبحت زاوية تافيلالت مكانا للحج والتعليم، وكانت تتوفر على خزانة ذات أهمية. وقد تعرف عليها عبد الله بن الحاج إبراهيم أثناء إقامته بالزاوية بفضل علاقات الصداقة التي كانت تربطه بحفدة شيخ الزاوية، وشارك فيها في قراءة صحيح البخاري خلال أشهر رمضان مدة ثلاث سنوات متتابعة. وفيها تعرف على سيدي محمد بن إبراهيم التافينكولتي الذي قال عنه المؤلف في رحلة الوافد (ص: 220): "كان فقيها جليلا متفننا في علوم شتى، وكان أديبا من شعراء الوقت، ولازمت خدمته والجلوس معه في مجالس أقرائه وأحكامه، لأنه هو المتولي فصب نوازل الناس في تلكم النواحي وزدَّاغه"، وكان يلازمه طيلة المُدد التي أقام فيها بتافيلالت، وأطول إقاماته بها على ما يظهر تمت في (سنة 1134ه - 1722م). درس التاسافتي أيضا في إيمي ن- واسيف (سوس الأعلى)، إذ كان يتردد بصفة خاصة في سوس الأعلى، على مركزين من مراكز التعليم : زاوية سيدي عمرو أوهارون، وزاويته تاكركوست: الأولى منهما توجد بقرية أومسلاخت ببلد إيرحالن أو رحالة، الواقعة بين تافينكولت وأولوز، والثانية بقرية تاكركوست ببلد زاكموزن. يقول المؤلف عن زاوية سيدي عمرو ءوهارون أنها كانت زاوية يفد عليها كثير من الطلبة لمتابعة دروس الفقيه سيد أحمد بن الحسن الأوزالي، قاضي الجماعة ببلد إيرحالن. ويضيف بأنه كان هو بدوره، خلال هذه المدة، يحضر بانتظام دروس الأوزالي، ودروس سيدي عبد الله بن محمد نيت يوسف حول المختصر والرسالة ومواد فقيهة أخرى، لكن هذه الزيارة لم تدم إلا شهرا واحدا؛ لأنه كما قال كان في طريقه إلى بلدة تاكركوست. لكنه قام بزيارة ثانية (عام 1129ه/ 1717م). وقد دامت هذه ثلاثة أشهر. ووضح أن نزوله بالمدرسة، خلال كل هذه الفترة، كان بغرفة محمد بن سعيد، وهو ابن الشيخ سعيد المزغني صديق عائلته، ثم رحل عن المدرسة المذكورة في متم شعبان من السنة نفسها، للذهاب مرة أخرى إلى تاكركوست. كان المسئول عن في زاوية تاكركوست في عصر التاسافتي سيدي محمد بن إبراهيم بن أحمد العثماني، أحد حفدة سيدي محند ءويعقوب الذي توجد زاويته في إيمين – تاثلت. وقد قال عنه في رحلة الوافد: "المرابط الخير الدين الصالح الفقيه المحدث.. "، وقال عنه كذلك: "فهو من أخيار رجال سوس وصلاحه". لقد أقام عبد الله بن الحاج إبراهيم بزاكموزن أول مرة في (سنة 1128ه/ 1716م) وحضر فيها خلال مدة خمس وعشرين يوما، مجلس قراءة صحيح البخاري، غير أن هذه الأيام الدراسية كانت تشمل في حقيقة الأمر، دروسا أخرى حول موطأ مالك وشفاء عياض والجامع الصغير والخصائص الكبرى للسيوطي وغيرها من الكتب؛ وكان الشيخ يحضر في درسه اثنين وسبعين كتابا، ذكر مؤلف الرحلة عناوين بعضها، ويوجد مسئول عن الخزانة يقوم بمهمة إعارتها للطلبة الراغبين في قراءتها ونسخها. لقد أقر عبد الله بن إبراهيم التاسافتي أنه قضى شهر رمضان في زاوية تاكركوست خلال ثلاث سنوات متتابعة. وفي (سنة 1129ه 1717م) عاد إليها، لينصرف عنها بعد إقامته بها مدة خمس وعشرين يوما، في اتجاه بلد منفى أبيه أمكرنيس، ومعلوم أن والده لم يكن في وئام مع سلطان الوقت المولى إسماعيل العلوي. أما مقامه الثالث بها، فيبدو أنه تم (سنة 1130ه/1718م)، حينما كان متوجها إلى درعة. درس التاسافتي أيضا في الزاوية الناصرية بتامكروت، إذ كان له حظ الدراسة بها في عهد شيخها أحمد بن ناصر الدرعي المعروف بالخليفة، لكنه لا يذكر أنه كان تلميذا مباشرا له، والثابت أنه كان يتلقى دروس كبار أساتذة الزاوية: يقول في الرحلة "بالزاوية الناصرية وقت قراءتنا على جهابذتنا". غير أننا نجهل المدة التي قضاها بزاوية تامكروت، وكل ما نعرف هو أنه كان قد رجع إلى بلده تاسافت في السنة نفسها، وأنه عاد إلى تامكروت، في زيارة قصيرة، (سنة 1130ه/ 1718م)، وبخصوص هذا السفر الأخير، ينبغي التذكير بأنه كان القصد منه أساسا هو زيارة شيخه، وشيخ أجداده على حد قوله سيدي محمد بن عبد الرزاق.. يستخلص المرحوم علي صدقي أزايكو في مقدمة تحقيق رحلة الوافد: أنه بعد الرحلة الدرعية سيسود الانطباع بأن صاحبنا التاسّافتي كان قد أمسك عن القيام بالأسفار البعيدة؛ لأنه أولا لا يذكر شيئا من ذلك، وربما كان ذلك بسبب تدهور صحة أبيه الذي توفي (سنة 1134ه/ 1722م) من ناحية ثانية، وذلك بعد ثلاث سنوات فقط من وفاة والدته، وأخيرا لأننا نجده في السنة نفسها بتافيلالت أيت تامنت التي كان يزورها كما قال كل رمضان طيلة ثلاث سنوات، وفي السنة الموالية (1135ه/1723م) كان في بيته بأمكرنيس بعد هذا نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نقبل إلى احتمال واحد هو أن الإقامة الدراسية للمؤلف بتامكروت كانت ما بين (سنة 1120ه/ 1708م)، و(سنة 1121ه/ 1709). بعد ذلك سيسافر التاسافتي إلى كل من مراكش وفاس لاستكمال دراسته العلمية بفضل من الله.. يتبع في العدد المقبل..