لقد قام أبو القاسم سمكَو بتنصيب خيمته في قلب الواحة وبدأ يدرس تعاليم المذهب الخارجي الصفري للسكان الوافدين عليه. وبعد أن جمع حوله عدة أتباع، بايع أبو القاسم عيسى بن يزيد الأسود وأمر باقي أتباعه للقيام بالمثل. فحمل عيسى زمام المسؤولية وبدأ في بناء مدينة سجلماسة سنة 140 هجرية أي ما يوافق حوالي سنة 757 ميلادية. وتطرح هذه البيعة إشكالية هامة تتجلى في كيف آثر أبو القاسم عيسى بن يزيد عن نفسه وعن أحد أقربائه؟ وللإجابة عن ذلك يمكن تقديم التفسيرات التالية: أ. قد يكون أبو القاسم قصد من ذلك عدم إثارة الصراع بين مختلف أفخاذ قبيلة مكناسة وبالتالي تفادي هيمنة أي فصيل على الفصائل الأخرى؛ ب. ربما أن أبا القاسم أراد بهذا العمل تطبيق المبدأ الخارجي في أحقية كل مسلم في تولية الحكم مهما كان لونه أبيضا أو أسودا ومهما كان أصله عربيا أو أعجميا؛ ج. ربما أن ذلك مرده إلى أن العناصر ذات الأصول الإفريقية كانت تمثل الأغلبية بين سكان سجلماسة في هذه الفترة، مما أضطر معه أبو القاسم إلى تخصيص القيادة لزعيمهم عيسى خاصة وأن معظم قبائل مكناسة لم تستقر بعد بالمنطقة؛ د. ربما أن أبا القاسم أراد بهذا الاختيار تمهيد أو تمتين العلاقات التجارية مع بلاد السودان.. مهما يكن الأمر، فالمتفق عليه بين الدارسين "أن مؤسس دولة بني مدرار بسجلماسة كان من أصل سوداني، إن كل ذلك يدل على اتصال المغاربة ببلاد السودان منذ وقت مبكر وتزاوجهم مع أهلها"[1]. وقد تم اختيار عيسى بن يزيد وبويع من طرف السكان المحليين ولو إلى حين، حيث دام حكمه 15 سنة [140 هجرية/757 ميلادية–155 هجرية/772 ميلادية] وقام خلال هذه الفترة بتدشين عملية بناء المدينة التي حاول أن يعطيها نموذج العاصمة الجميلة والكبيرة. ومن أهم أعماله تنظيم قنوات المياه، وتشييد الحدائق وتوطين السكان الرحل في أحياء خاصة حسب انتمائهم العرقي. ومع ذلك فكل هذه الأعمال لم تعجب القبائل المكناسية التي تزايد عددها مع مرور الزمن، فقامت بالتمرد ضد عيسى بن يزيد وتخلصت منه بالإعدام سنة 155 هجرية/772 ميلادية. بعدها عملت على تنصيب زعيمها الروحي أبي القاسم في مكانه، وبذلك تبدأ فعليا الدولة المدرارية التي حكمت لأكثر من قرنين أي إلى غاية سنة 366 هجرية/976 ميلادية. ب. الإمارة المدرارية [140ه/772م-366ه /976م]: يعتبر أبو القاسم سمكَو بن واسول أحد مؤسسي المذهب الخارجي الصفري ببلاد الغرب الإسلامي، حيث تلقى المذهب على يد عكرمة مولى ابن عباس بإفريقية وشارك في ثورات الخوارج ضد ولاة بني العباس بالمغرب الأدنى قبل أن يستقر به المقام بمنطقة سجلماسة. وكان أبو القاسم سمكَو "رجلا متفتحا ومحنكا، فقد حافظ على حكمه ضد كل المؤامرات القبلية وتفاديا لتدخلات العباسيين اعترف بهم، ودرءا لخطر أباضية تاهرت قام باعتناق مذهبهم"[2]. هذه السياسة وفرت لمدينة سجلماسة وضعا أمنيا شاملا وربما نهضة اقتصادية طيلة فترة حكم أبي القاسم إلى وفاته سنة 167 هجرية/784 ميلادية. وخلفه ابنه إلياس المكنى بالوزير الذي لم يحكم طويلا وجاء من بعده أخوه اليسع سنة 174 هجرية/790 ميلادية. وفي عهد هذا الأخير عرفت سجلماسة تقدما سياسيا واقتصاديا، وكانت بمثابة العاصمة الحقيقية والمدينة الكبيرة والجميلة. وكانت المدينة تحاط بسور حصين وعال قصد التصدي للهجمات الخارجية. "هذا السور احتضن بداخله أهم المرافق والحقول والنخيل وكان امتداده يتراوح ما بين 70 و 80 كلم"[3]. وكان لهذا السور اثنا عشر بابا عرف اسم خمسة منها هي: الباب الغربي، والباب القبلي، وباب موقف زناتة، وباب الزعفران وباب غدير الجزائين أو الجزارين. كما شيد اليسع دار الإمارة والمسجد الجامع والحمامات العمومية وعدة مرافق أخرى. وبرزت قوة هذا الحاكم أيضا في توسيع النفوذ الترابي لسجلماسة مع سيطرته على كل الواحات المجاورة، وتحكمه في مسالك تجارة القوافل وفي المعادن المستخرجة من المناجم بدرعة. ومن أجل "أن يعطي لحكمه سمعة أكثر استقرارا فقد تحالف مع عبد الرحمن بن رستم أمير تاهرت عبر عقد قران بين ابنه مدرار وبنت عبد الرحمن المسماة عروة"[4]. الخريطة 4: الحالة السياسية لبلاد المغرب في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي يتبع في العدد المقبل.. ---------------------------------------------- 1. توفيق الطيبي أمين، دراسات في تاريخ المغرب والأندلس. طرابلس، الدار العربية للكتاب 1984. 343 صفحة ص: 305. 2. El Mellouki (M): op-cit), p: 112. 3. El Mellouki (M): op-cit), p: 90. 4. Mezzine (L): "Sijilmassa", Le Mémorial du Maroc, op-cit), p: 29.