إن الحديث عن تاريخ نشأة المذهب المالكي هو الحديث نفسه عن تاريخ التشريع الإسلامي من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تاريخ نشوء المذاهب الفقهية. فقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمره بتبليغ الشرائع، وتبينها للناس حتى يكونوا على هدى من الله، قال تعالى: "يأيها النبي بلغ ما أنزل إليك" فعمل صلى الله عليه وسلم على تبليغ وتبيين الأحكام الشرعية وتعليمها للناس، وذلك بتفصيل مجملها وتقييد مطلقها، وتخصيص عامها، وشرح مشكلها.. وكان بيانه صلى الله عليه وسلم بالقول، وهو ما يسمى بالسنة القولية، وبالفعل، وهو ما يسمى بالسنة العملية، وبإقراره، وهو ما يسمى بالسنة التقريرية. وكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة هو المرجع الوحيد للناس فيما يستجد لهم من مستجدات وقضايا تستوجب معرفة حكم الله تعالى فيها، أو يحل لهم ما يُشكل عليهم، ويقضي بينهم.. لما أعطاه الله من التصرفات والمناصب الدينية، فكانوا يستفتونه ويسألونه، وقد ذكر القرآن الكريم جل تساؤلاتهم من ذلك قوله تعالى: "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض" [البقرة، 220] وقوله: "ويستفتونك في النساء.." [النساء، 126]. ولم يلتحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حتى لقن صحابته الكرام سبل الفتوى، ومنهج القضاء والاجتهاد..، من ذلك: القصة المعروفة حينما أرسل صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري إلى اليمن قال له: بما تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قل: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله". وفي عهد الصحابة بدأت حركة الاجتهاد وتوسعت دائرته، وقد منع سيدنا أبو بكر وعمر الصحابة من الخروج من المدينة حتى يستعينا بهم فيما يعن من مستجدات ونوازل، وكانا يجمعانهم ويستشيرانهم في المسائل الاجتهادية، منها: أن أم الأم جاءت إلى أبي بكر تطلب ميراثها من ابن بنتها، كانت قد ماتت أمه، فقال لها: لا أعلم لك في كتاب الله تعالى من شيء، ثم اتجه إلى الصحابة يسألهم قائلا: هل منكم من يعلم أن رسول الله قضى لها بشيء؟ فقام المغيرة بن شعبة يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لها بالسدس، فقال: ومن يشهد معك؟ فقام آخر وشهد بمثل ما قال، فقضى لها بالسدس. ورغم هذا كله بدأت بذور الاختلاف بين الصحابة في تفسير بعض النصوص الشرعية بسبب اختلافهم في فهم النص، من ذلك: اختلافهم في مدلول لفظ القرء في قوله تعال: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" [البقرة، 226]، فإن القرء يطلق على معنيين: أحدهما الطهر، والثاني الحيضة نفسها، وقد فهم عبد الله بن مسعود وعمر رضي الله عنهما أنه يراد به الحيضة، ولذلك كانت عدة المطلقة عند هؤلاء ومن اتبعهم من الأئمة ثلاث حيضات، وفهم زيد بن ثابت أن المراد بالقرء هو الطهر الذي يكون بين الحيضة والحيضة، وعلى هذا القول، فإن عدة المطلقة ثلاثة أطهار. وفي عهد سيدنا عثمان رضي الله فتحت العديد من البلدان ودخل الناس أفواجا في الدين، وسمح للصحابة بالسكن خارج المدينة، فتفرقوا في الأمصار، وانتصبوا للتعليم والتدريس والإفتاء والقضاء، وكان منهجهم العام رضي الله عنهم هو اللجوء إلى القرآن الكريم فإن أسعفهم توقفوا عنده ولم يجاوزوه لغيره، وإلا صاروا إلى السنة النبوية، فإن وجدوا بغيتهم تمسكوا بها ولا يحدون عنها، فإن لم يجدوا في الكتاب ولا السنة بذلوا جهدهم ووسعهم في الاستنباط والاجتهاد على ضوء الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة وقواعدها الكلية. كانت المدينة في تلك العهود عاصمة الدولة الإسلامية ومركز الخلافة، ومنبع العلم والعلماء، ولما تفرق الصحابة الكرام بدأت بعض الحواضر يبرز فيها جملة من الفقهاء والعلماء الذين تتلمذوا على يد الصحابة، إلا أن المدينةالمنورة ما تزال أم الحواضر الإسلامية حوت علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوارثه أهلها جيلا عن جيل. بدأت تتشكل في هذه المرحلة بعض ملامح المدارس الفقهية: مدرسة عبد الله ابن عباس في مكة، الذي تخرج على يديه: عطاء بن أبي رباح.. ، ومدرسة عبد الله ابن مسعود وعلي ابن أبي طالب، تخرج من مدرستيهما: إبراهيم النخعي، والشعبي.. ، ومدرسة عبد الله ابن عمر في المدينة، الذي تخرج على يديه جمع كثير منهم: سالم ابنه، ونافع مولاه، وسعيد بن المسيب.. وبعد استشهاد سيدنا عثمان اشتدت الفتن والكروب على الأمة وبرزت اتجاهات ومذاهب كالخوارج والشيعة واتسع نطاق الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت العراق مركز هذه الفتن والمحن، وسلمت المدينةالمنورة من دخول هذه الفرق والنحل، بسبب شدة التمسك بالسنة والأثر.. يتبع في العدد المقبل..