يقول عز وجل في محكم كتابه العزيز "قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" [اَل عمران، 119]، تتضمن هذه الآية دعاء بالموت غيظا على من يُضمر مشاعر الغيظ للمسلمين، بل والدعوة على كل من يعلم من نفسه الاتصاف بالغيظ على أهل الإسلام وأهله، وعلى كل حال يتمثل المقام الحالي لقوله تعالى: "قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" في ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم"[1]، وسيق المقام المقالي لهذا الدعاء في سياق النهي عن اتخاذ أعداء الدين الإسلامي من المنافقين والمشركين أولياء؛ لأنهم يُضمرون مشاعر العداء والكراهية والبغضاء لهذا الدين وللمؤمنين به، وهذا واضح في الآيات السابقة على هذا الدعاء وفي الآيات اللاحقة عليه، فهي مسبوقة بنهي المؤمنين عن اتخاذ هؤلاء بطانة[2]، أولا بسبب البغضاء التي تبدو من أفواههم، وثانيا بسب مشاعر العداء التي تكنها وتضمرها صدورهم، وثالثا بسبب نفاقهم وعدم وضوح موقفهم. ولهذا يجهدون أنفسهم في إلحاق العنت والضرر والمشقة بالمسلمين، وهو ما يُستخلص في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَالُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ اَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاَيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَانتُمْ أُولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُومِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" [اَل عمران، 119]، كما لحق هذا الدعاء بيان بليغ للحالة النفسانية التي يكون عليها أعداء الإسلام، صورها تصويرا دقيقا قوله تعالى: "إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا اِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" [اَل عمران، 120]. والحاصل أننا نُميز في مقام هذا الدعاء بين أمرين مفصليين: الأول النهي عن اتخاذ المناوئين والمحاربين للدعوة الإسلامية أولياء، والأمر الثاني تعليل هذا النهي بما يُخفيه هؤلاء الأعداء من مشاعر الكيد والكره والعداء. وهكذا إن الدعاء عليهم بالموت، كما نبه الطاهر بن عاشور رحمه الله "كناية عن ملازمة الغيظ لهم طوال حياتهم، إن طالت أو قصرت، وذلك كناية عن سبب غيظهم، وهو حسن حال المسلمين، وانتظام أمرهم، وازدياد خيرهم"[3]. وإذا استحضرنا المقام الذي سيق في إطاره الدعاء بالموت على أعداء الدين الإسلامي، سواء في صورته الحالية أم في صورته المقالية، أدركنا نوع التدقيق في التصوير القرآني للبناء النفساني لهؤلاء الأعداء، ناهيك عن بيانه البليغ لمكوناته الشعورية ولعناصره الذاتية، ومن ثم حق للأستاذ سيد قطب رحمه الله الذي عَلَّق بدوره على هذا التصوير البليغ فقال رحمه الله: "صورة رسمها هذا القرآن الحي، فغفل عنها أهل هذا القرآن فأصابهم من غفلتهم وما يزال يصيبهم الشر والأذى والمهانة"[4]. يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى.. ---------------------------------------- 1. تفسير المنار، رشيد رضا، ج: 4، ص: 70. 2. بطانة الرجل خاصته التي تستبطن أمره و تتولى سره، مأخوذ من بطانة الثوب، وهو الوجه الباطن، تفسير المنار، ج: 4، ص: 70. 3. الإمام بن عاشور، التحرير والتنوير، ج: 4، ص: 67. 4. سيد قطب، في ظلال القرآن المجلد: 1، ص: 451