تعتبر الحاجيات مرتبة يتوسع فيها المسلم في التمتع بالطيبات مسكنا ومركبا ومأكلا ومشربا. ومن هذه الأحكام إباحة الصيد وإن لم يتأتى فيه إراقة الدم المحرم مما يتأتى بالذكاة الأصلية[1]. وأباح للمريض والمسافر، والمرأة الحامل، والمرضع إذا خافت على ما في بطنها استهلاك الأطعمة والأشربة يقول عز وجل: "ومَن كَانَ مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ اَيَّامٍ اخَرَ" [البقرة، 184]. وفي الحديث: "إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام"[2]. ورخص للمضطر أكل الميتة وتناول النجس إنقاذا للنفس "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ" [ البقرة، 172]. كما رخص في الضرر اليسير والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب. فالمقاصد الحاجية ترتبط بالاستهلاك، ومدارها التوسعة والتيسير والرفق ورفع الحرج عن المكلف. ويندرج فيها ادخار ما فوق الحاجة من الأطعمة والأشربة، والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار[3]. علاقة الاستهلاك بالتحسينيات يرتبط الاستهلاك بالتحسينات في الأخذ بمكارم الأخلاق وما يستحسنه أهل المروءات من آداب الأكل والشرب، وأخذ الزينة من اللباس، ومحاسن الهيئات والطيب، وما أشبه ذلك، والتوسعة على العيال في النفقات[4]. فالتحسينات ترتقي بالمسلم بتحسين مستوى معيشته، وتجميل حياته. "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" [الاَعراف، 30]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سعادة المرء المسكن الواسع، والجار الصالح والمركب الهنيء"[5]. فلا ضير على المسلم أن يستهلك السلع التي تشبع حاجته الكمالية -إن كان مستواه الاقتصادي يسمح بذلك- مثل التجميل بالثياب والأطعمة ونقش الحيطان وتزيين البنيان، والاستمتاع بالطيور المليحية كالببغاء والطاووس، وإن كانت لا تأكل لأن "التفرج بأصواتها غرض مقصود مباح"[6]، إن إقرار الإنسان في إشباع حاجاته الكمالية والتحسينية ليس حقا مطلقا، بل إنه مقيد بقيود تحول دون انزلاق أو انغماس المسلم في مظاهر الترف والإسراف والتنعم "إياكم والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين"[7]. فالأخذ بما يليق من محاسن العادات لا يتعارض مع مبادئ الإسلام، ولكن الذي يخالفه هو التوسع في تلبية الحاجات الكمالية لدرجة ينهمك فيها الإنسان في اللذات وإشباع الرغبات الترفية التي لا تعبر عن حاجات حقيقية للإنسان. فإشباع الحاجات الكمالية لا ينبغي أن يكون على حساب المصلحة الاجتماعية؛ لأن الفرد لا يجوز له أن ينفق على كمالياته وفي المجتمع من لم يشبع حاجاته الضرورية[8]. ومن هذا المنطلق ينبغي فهم كثير من النصوص الشرعية التي ورد فيها حث النبي صلى الله عليه وسلم على التكافل والتضامن الاجتماعي، وقد أثنى صلى الله عليه وسلم على الأشعريين بقوله: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم"[9]. فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الأزمة تحدث فيهم، فيختل توازن الدخول أو النفقات، فمنهم من لا يجد إلا الكفاف، ومنهم من يكون دون ذلك، ومنهم من يتوفر على فضل وهكذا. فإعادة توزيع ما جمعوه يجعلهم يتأسون في الحصول على ضرورياتهم، وبذلك يقع التوازن في الاستهلاك في مجتمعهم، فلا تفاوت ولا اختلال. يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى.. ---------------------------------------- 1. الموافقات للشاطبي، ج: 2، ص: 5. 2. أخرجه الترميذي، في كتاب السنن: كتاب الصوم, باب ما جاء في الرخصة في الإفطار للحلبي والمرضع، ج: 3، ص: 94 - وأبو داود في السنن: كتاب الصوم: باب اختيار الفطر، ج : 2، ص: 217- والنسائي في السنن كتاب الصيام، باب وضع الصيام عن البلى والمرضع، ج: 4، ص: 190. 3. الموافقات للشاطبي، ج: 4، ص: 17. 4. الموفقات للشاطبي، ج: 2 ص: 40. 5. رواه البخاري في الأدب المفرد، ص: 67، دار الكتب العلمية، لبنان، بدون تاريخ. 6. إحياء علوم الدين: للغزالي، ج: 4، ص: 762. 7. أخرجه الإمام أحمد في كتاب الزهد، ص: 11 دار الكتاب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، 1403ه/1983م. 8. الخصائص الحضارية للفكر الاقتصادي الإسلامي: محمد فاروق النبهان، ص: 67. 9. رواه البخاري في باب الشركة في الطعام، أنظر البخاري بحاشية السندي، ج: 2، ص: 74.