عرف تاريخ الأمة قامات لأدواح عظام في أسر مسلمة، حملوا على عاتقهم مهمات دفع عجلاته إلى الأمام تحت رايات الإسلام للتآخي الإنساني، فحققوا بالأفعال والأقوال معا طموحات مجتمعات، وأحلام أجيال، وحملوا مشروع أفكار جريئة تتخطى الزمان والمكان، "فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ اَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ" [مريم، 59]. لكن الأمة مند تسعة قرون تعيش المأزق الذي تردت فيه لافتقادها إلى الوسائل الأقدر على توظيف ما لديها من إمكانيات مادية وبشرية، حيث اختلط عليها المنهاج الوسطي المتوازن، فاستحال عليها مواكبة كل جديد، وباحتجابها عن الفعل غاب عنها الحضور والشهود، وعاشت مشكلة التراجع، لقد ضيقت على أبنائها وبناتها واسعا، وألزمتهم أشياء ليس تلزمهم، فقبعوا في قوقعة مغلقة لا تنفذ إليهم أنسام الحياة العبقة البهيجة، ولا يفطن إلى وجودهم ناس ذووا بال، وغيبتهم مطمورين في غيابات المجهول، والواقع يدعو كل أسرة تملك بصيرة أن تنطلق مع أبنائها وبناتها كالبلابل المغردة، في رحاب رياض بين المروج والخمائل، ليستمتع الجميع بأشكال زهور ذات ألوان متفتحة، يملأون الحياة شدوا وترنيما، وبما يليق بالمجالات المونقة إطلاعا وبناءا. وكل أسرة غابت عنها قاعدة الاستبصار تتعرض لرياح القلق والاهتزاز، وبما يحول بينها وبين النهوض والتقدم، ومن كان هذا السد الحائل الحاجز يقف دون نواياه الطيبة لا يبدع أعمالا نبيلة، وأنى له أن يحتل مكانته في السماء مع النجوم والكواكب. والذنب إن كان ذنب، فهو ذنب فترة طويلة من التاريخ، ولكن هل نهضت الأمة النهضة الواجبة لترمي عن أكتافها إلى الأرض ما أثقلها به هذا التاريخ، الجواب أقول مع القائلين والذي لا مرية فيه لا ثم ألف لا، والأمة عندما أعني الأمة، تعيش في ماضي الزمان أكثر من عيشها في حاضرها، وأكثر بكثير، والآخرة أكثر استيلاء على عقول أبنائها وبناتها وعلى تصرفاتهم، وهي من وراء ذلك تسلك مسلكا ينتهي بها إلى خراب الدنيا والآخرة معا. ولقد علمنا أصحاب الحنكة والتجربة أن الدنيا قوة والآخرة تقوى، ولا تتحقق التقوى الصادقة إلا بقوة في الدنيا والضعاف في دنياهم فقراء وهم أذلاء، والتقوى غير الفقر، وإن خلط القوم بينهما، وأحب الناس إلى الله مرفوعوا الرؤوس، الأغنياء بعملهم الكاسبون لأولادهم ذووا الحيل الذين يعرفون كيف يتصرفون في دنياهم. وقوة البشرية اليوم فُهوم وعلوم، وسقيا من كل روافد التقنية والعرفان، وغنى الإنسانية في هذا العصر زروع وحصاد، واستنبات كل جديد، والعلوم والتقنية وراء كل ذلك وثراء البشرية حاضرا صناعة، والعلوم والتقنيات وراء ذلك. وحضارة عصرنا حضارة إنسانية لا يضيرنا نحن المسلمين أن تكون شرقية أو غربية، وفي مقدور المسلمين أن ينتقوا من الحضارة، ولكن ليس في مستطاعهم رفضها، والمسلمون لابد أن يدرسوا ويراجعوا أحوالهم دراسة أبعد وأعمق في الزمان، وهذه الدراسة يجب ألا تقف عند الأعوام والأيام، ولكن عليها أن تخترق القرون. وإن وجودنا خارج التاريخ وإصرارنا عليه، ناتج عن نومنا العميق ففقدنا السمعة الطيبة، ولم نعمل بالحكمة الدافعة إلى الأمام، وقد تصدع بنياننا فاستحالت حياتنا نكتة باردة لا معنى لها، وقد ذهب الناس في سوء ظنهم بعد أن عدونا لغزا به يسخرون بنا، والنجاح في الحياة يحتاج إلى طبائع شريفة سامية، وفقدان الحياء في الحياة من أكبر أسباب الفشل، ومن ضم إلى ذلك الخرافات فلم تعصمه من مواقعة النكسات، هو السبق لمن يتناول المعول بيمناه ويوزع الثروة بيسراه. والأمة الحية من تملك الشخصية المغناطيسية الجاذبة تلتف النفوس حولها، حديدة المزاج شديدة العزم شجاعة مقدامة، قوية الاعتماد على الله لا تبالي بصروف الزمان تقضي أيامها حرة طليقة كالهواء أو كالطير على الأغصان أو كالأسود لا تعدم فرائسها أينما حلت وارتحلت. والعاجز من ابتلي باختلال الشعور وانحراف المزاج، وأصبح في حاجة ماسة لأن يدعو له القوم بالشفاء من أوجاعه، ذلك لأنه يرى كل شيء في الحياة عبث، فلا يرتفع فوق الصغائر، ولا يحاول التغلب على القيود التي تأسره فلا يرى في الضياء إلا ظلاما، فأفسد ما بينه وبين الحياة بسوء ظنه، يسمع همس شياطينه ذات اليمين وذات اليسار. إن المجتمعات الإنسانية تتغير، وهذا التغيير الذي يلمسه كل مهتم ومتابع للشأن العالمي، وعلى متن قافلة التغيير هذه سفينة الإنسانية الناعمة حاملة كنوزا من ثمار الحضارة في الجو والبر والبحر، راصدة لكل سباق ينشأ، وهناك بصيغة من جديد على أسس تخدم الأجيال في الحاضر والمستقبل، بعد أن أصبح الجديد في هذا الكون كالماء والهواء تتنفسه البشرية اللاحق والسابق، وتتخطفه نخب الإصلاح والتحديث، والانسجام مع العصر الذي يعيشون فيه، جامعين بين العتيق العريق، والتفاعل مع الواقع والمعاصر والتأسيس على فرضية التضاد والتعارض، والتوفيق بين تحديات الواقع واحتمالات ما يحمله المستقبل، ومتعاونة على ألا تقع في الظلام، وإلا تسكت عن الظلم والظالم؛ لأنهم يعلمون أن العبقرية تصنع ولا تولد، رغبة في المحافظة على التواصل مع الأجيال في مسيرة التعايش الإنساني، بالحكمة والتبصر؛ ولأنهم يعلمون أن أنصاف الحلول تصنع أكفان البلداء، لكن صحة الإدراك وسداد الفهم به يكسب الإنسان الشموخ في مدارج الحياة، وتأكيد الإيمان بالخالق سبحانه وغرس الإحساس بعظمته جل جلاله. وبإعمال العقل والنظر في شتى مظاهر الخلق والوجود تتسم المجتمعات الإنسانية بالتفاعل والتواصل، وبالفهم والالتزام يزدان المؤمن عمقا وأصالة في موافقة الحق، وإحراز التوفيق وإصابة النجاح، قال تعالى: "وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [البقرة، 281]. وأصالة الأمة مبددة بهذا السبات الماحق الحارق، وإيقاظها لا يتم بغير كد وجد، وهي مشكلة من أخطر المشاكل التي يعانيها المجتمع المعاصر، وهذه الأمة لقد شبت عن الطوق في القرون الأربعة الأولى للهجرة، وكان لابد لها أن تشب، وهي كالكائنات الحية التي إن وقف بها النمو أيا كان نوعه فاخشى أن تموت، ومن كان يحمل في طيات صدره الجمود، وما جمد الإسلام ولكن جمد الزمان وأهله، ووجه الإسلام شمس مشرقة، ووجه أرض الإسلام ضاح ضاحك، ثم اغبر وجه أرض الإسلام وملأت سماءه سحب سوداء، وسكت الناس عن تقدم المسلمين وتكدر كل شيء. وأحزان الأمة لا يستطيع أن يفهم روحها إلا من يتمثل في فكره تاريخها، إن روح الأمة وحتى مزاجها يصبح لغزا بغير تمثل التاريخ الذي عاشته خلال القرون التسعة، وبغير تمثل ذلك التاريخ لا يمكن فهم الشفاه المطبقة بالمرارة التي يقابلها من يراها تتلوى عسى أن تنسى الأمس والغد معا، ولا يمكن فهم الأيدي المعبأة بالابتهال والضراعة والخوف من المجهول. وبغير فهم ذلك التاريخ لا يمكن فهم المشاعر المناقضة التي تعتمل في نفس كل أسرة وهي تقابل فترات الاستبداد والاستعمار المقرفة التي تشعرها بمركب النقص، ولقد أثبتت مأساة قرون بما لا يدع مجالا للشك أن التفاعل الإنساني والتواصل هو الطريق الوحيد لتحرير الأسر والأمة والإنسانية من عقدة الإحساس بمركب النقص، والإنسانية المتنافرة كظل أعوج وصدق فقهاؤنا لما قالوا: "إذا ضاق الأمر اتسع" ولولا الشدائد ما قامت قائمة لأمة على وجه الأرض. وأسباب التقدم والنهوض لا جواز سفر لها، فهي في كل مكان، ولا يمكننا أن نقول أن أمة اقتبستها من أمة أخرى، والتاريخ محكمة عادلة، والقاضي يحكم والمتهم حاضر، والمؤرخ يحكم والمتهم غائب، وصدق الوصف التاريخي أجدى على الناس من الإثارة والاستفزاز، ومن حق التاريخ وواجبه أن يصدر الأحكام على الرجال والأسر الذين تولى عهدهم وطويت صحائفهم، وله ولأهله أن يدينوا أو يبرئوا وأن يقسموا الناس إلى أشرار وأخيار، وينظموا عقود المدح والثناء، ويدمغوا المسيء بما ارتكب من سفاهات وحماقات وسخافات، قال تعالى: "وَوُضِعَالْكِتَابُفَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِهَٰذَاالْكِتَابِلَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوامَاعَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" [الكهف، 48]. والله الهادي إلى سواء السبيل..