عالم الطفولة، يمثل للأمة دائرة معارف مجهولة، بها كنوز ليس إلى حصرها سبيل، لما يتخللها من رموز وألغاز، تحتاج دراستها إلى جهد عصبة من أولي العزم من العلماء في النفس، والاجتماع، يتضافرون على الغوص في أعماقها، لاستخراج مكنوناتها الدفينة، واكتشاف أسرارها العجيبة، وتسخيرها ليرى الناس في الأطفال، التوافق الزماني بين مناشط الأجسام، ومناشط العقول... وفي مطلع هذا القرن تكاثرت المتاعب، وتجمعت في عالم الأطفال، سحب من المغاليق والشكوك، وخاصة فيما يتصل بالتوريث للخصائص، حيث نرى الماضي كله يتراكم في الحاضر؛ لا غرو سينتقل بأسره إلى المستقبل. ولا سبيل إلى إنكار ما يقع في عالم الأطفال، في كل لحظة من أدوار حياتهم من جديد، ولولا هذا الجديد، لوقف الوجود حيث هو إلى الأبد، لكنه يتقدم ويتطور، وينمو بفضل هذا التجديد لفكر الأطفال، وخلاياهم تتبدل وتتجدد، إنهم كالأنهار، الدافقة ماؤها في كل لحظة ماء جديد، لا يلبث في الظهور للعيان حتى يتوارى، ليندفع في أثره ماء جديد، ومن ثم فلا مناص لمعرفة عالم الأطفال، وإدراك ما يحوطه ويغشاه بين الثبات والتغير، والعيب الوحيد الذي أراه مجسدا في دارسي عالم الأطفال؛ أن غالبيتهم لم تفكر بفكر هذا الجيل الجديد؛لأنهم أخلدوا إلى ما تلقوه في المعاهد، والجامعات من معارف جاهزة، تاركين مهمة حل المشاكل التي تهم الأطفال للحدس والتخمين، ولم يعرفوا من عالمهم الأشياء المحزنة والمزعجة، ولا المقوية للقلوب والنفوس، وكان الأجدر بهم، وهم في سبيل بناء علم عربي إسلامي حديث، يقوم على دعائم التراث، وآخر نابع من ذواتنا معاصر، وبذلك فاتهم أن يتذوقوا أريج الطفولة وشذاها الفواح، فلم يصلوا إلى نتيجة، والأنكى من ذلك هذا الإهمال، والجهل المنسحب، على كل الأمور، التي لها صلة بالأطفال، وذواتهم، وحياتهم، وعلاقاتهم، بغيرها من الذوات. ولعلي لا أبالغ حين أقول: أن من أهم الأشياء في عالم الإنسانية، هؤلاء الأطفال الذين هم روح الحياة، وجوهرها ودعامتها، والأساس الراسخ الذي تقوم عليه الحياة الطيبة المتحركة، والحق أن مسؤولية الوالدين، مسؤولية لا تفوقها مسؤولية أخرى، مهما عظم شأنها، في أن يعنوا بأن يوفروا للأطفال ما يضمن لهم المستقبل السعيد، والعيشة المطمئنة؛ وإن أهم أسباب انحراف الأطفال وجنوحهم وخروجهم على أعراف المجتمعات، البيوت المضطربة والعائلات المتفككة، ولا يخفى أن عالم الأطفال أشبه ما يكون بالجو تارة يغيم، ثم يصحو بعد غيام ليغيم من جديد، وهذه أبحاث أجريت على عينات من الأطفال من جنسيات مختلفة، دلت على أنه كلما كانت لهم حياة أفضل، ووسائل للتعليم أوسع ومستوى معيشة أرفع، كانوا أذكى وأبرع. وفي هذا الزمان الذي تميز فيه واقع الأمة بالشرود، وتباعدت فيه المسافات بين أطراف الجسد الواحد، وحفرت الخنادق في أرجاء الأمة الواحدة، رأينا من يخاطب الأطفال بما يخاطب به الماضي، أكثر مما يخاطب الحاضر والمستقبل، ووسط هذه الظروف التي تحاصر الطفولة بعتمتها، نرى بعض الملامح والإشارات، تلمع من حين لآخر تبشر بفجر جديد، يعقبه صبح بضيائه، لجيل يتشرب الفكرة من خلال الكلمات، دون إزعاج عصبي أو نفسي، بصرف النظر عن الجو المحيط بهم، سواء كان هادئا أو صاخبا، وهي تستعرض أمام أعينهم تجارب بعض المبدعين، تحبب إلى نفوسهم الحياة، بكل ما هو جيد ونافع، من توقعات التغيير والمشاركة في كل خطوة للقضاء على الجهل، والتخلف، لبناء صرح إسلامي وإنساني، شاهد على عبقرية الإنسان المسلم، ويومها نفيق من هول الكارثة الحضارية التي يعيش في ظلالها الداكنة أطفالنا. وحينما ترحل نغمة التشاؤم، التي سيطرت على العقول، لتحل محلها نغمة الآمال المتفائلة، وتتحرك المشاعر الإنسانية النبيلة، التي يفجر ينابيعها أطفالنا، ببعث إسلامي، وإنساني يتجاوز الحالة الداكنة الراهنة، إلى حالة أخرى صاعدة مثمرة، تتفهم الجانب الإنساني لدى الأطفال، وهو جانب لا يعرف، إلا بمشاركة أطفال الدنيا، بما يقوي من كرامة الإنسان، ويعلي من قيم الأخلاق، والوقوف عند حدودها بلا تخط للمحظورات والمحرمات. وإذا حاولنا التحدث عن السمات، التي يتمتع بها الصغار عن الكبار، فسوف نجد أنهم يتمتعون بعالم خاص، يعبر عما في مكنونات صدورهم، ومشاعرهم، بإحساس وصدق، أكثر مما يظهر في فعل الكبار، ونحن إذا قارنا بين من يتطلع إلى الآفاق البعيدة، وبين من يحصرون أنفسهم في الجامد البارد، تأخذنا الدهشة والاستغراب، من الذين يخلقون الحياة ويدفعون بعجلتها إلى الأمام، ومن يصنعون الموت ويرتمون في أحضانه؛ وهنا علينا أن نقف وقفة مصارحة مع أنفسنا، وقفة تتمعن في جوهر الإسلام، لوصل ما مضى من أزمان أطفال المسلمين بحاضرهم ومستقبلهم، يستمد منه أطفالنا مزيدا من العزم والثقة بإسلامهم، وبصوت عال يؤيد حماسة صدقنا فيما ندعو إليه من توثيق العلاقات الإنسانية، التي هي حاجات كل أطفال الدنيا، ونحن نتجه في حركة مستقيمة، كل خطوة نخطوها، محال أن تعود بنا كما بدأنا، وأن نروض أنفسنا وأطفالنا كذلك، على تقبل الحقائق، حتى نكبح جماح النفس الأمارة بالسوء، جاعلين نصب أعيننا قول الله تعالى: "وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا" [سورة الاِسراء، الآية: 13-14]. وبهذا يعي أبناءنا وبناتنا؛ أن الإسلام ليس دنيا ودين فقط، ولكنه دنيا وآخرة، ليكونوا نجباء، يترسمون في خطاهم في الحياة الدنيا، في وعي أمين، وعرض رصين، وإيمان متين، ويقين مكين، ليعيشوا مع المسلمين، وغير المسلمين، في وئام وأمن وسلام، من أجل الرقي، والترابط، والتعارف في الحياة المشتركة مع كل البشرية، وتهيئة مناخ أخلاقي سليم للنشء، الذي يستحق أن يندرج تحت قوله تعالى: "إنهم فتية ءامنوا بربهم وزدناهم هدى" [سورة الكهف، جزء من الآية: 13] لبث الثقافة الإسلامية في أرجاء هذا الكون، تطارد بنورها الوهاج ظلمات التخلف والأمية؛ لأن الناس في أمس الحاجة إلى التفكير النير، والتعبير الحكيم، والتدبير السليم، حافزا لكل ذي دين، على أن يكون الحق رائدا له، يأتي بالجديد النافع، ويعالج الواقع بالفكر المتزن، ويدعو غيره للالتزام بوسطية الإسلام. ومن خلال ذلك نقول نعم: أنتم أيها الأطفال للدنيا بهجة الأنظار، يا أمل الأمة ما أسعدنا بكم، وأنتم ترسمون لها، دروب الخير بسعيكم المعطاء، لتنزعوا عنها ثوب الكسل، والخمول وتسلكوا بها سبيل المرسلين، والأنبياء والصالحين الأتقياء، وصدق الله العظيم وهو يقول: "الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" [سورة الحجرات، جزء من الآية: 3]، عليكم المعول لإنجاز مساهمات حضارية وعلمية، تذكر في سلم الحضارة الإنسانية، وكل أمة لا تستطيع الإمساك بناصية العلم والتقنية، فسوف تضيع وسط الزحام، ويلفظها العصر بمستجداته، وأطفالنا لا تنقصهم العزيمة والقوة والإرادة، لإقامة حياة إسلامية، بصيغة جديدة في إطار يختزل الزمان والمكان، لفتح كواليس الحياة الظالمة القاسية، ليعيدوا للأمة تاج الحياة الزاهية، بالنفس الطويل، ودون تراجع أو تردد، إحياءا لنهضة إسلامية عالمية، تمهيدا للطريق، لمن يخلف هذا الجيل بتجاوز الحدود، منطلقا بالفهم الإسلامي الصحيح لقوله سبحانه: "وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون" [سورة المومنون، الآية: 52]. وأنا على يقين؛ أن توجيه الأطفال نحو تفعيل راشد، يرتقي بالدعوة الإسلامية، حتى تنصلح أحوال الأمة، وفقا لمصالحها، وليس بإملاء من جهة غريبة، ويرحم الله ابن طباطبا العلوي وهو يقول: فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي فقيمة كل الناس ما يحسنونه وهذا أوان الإنجاز، ليصبح كل شيء، يتعلق بالأطفال، قابلا للتمييز بين ما هو حق، وما هو باطل، لتحرير الإنسان من الداخل، ونزع قيد الأكبال، والأشواك عن رقاب العباد، والالتزام بقيم الحرية، والعدل والمساواة، وكل صيحة في هذا الاتجاه، تعد خطوة جادة نحو ظهور إمارات الحق، التي تمثل جوهر الإسلام الحق، وهدف رسالته العظيمة، حفاظا على أعراض الناس، وممتلكاتهم، وأوطانهم في حدود العدل الإلهي، والتشريع السماوي الرحيم. ومهما تطورت الحياة؛ فإنها بحاجة إلى تبني حضارة، تعلي مجد الأمة وكيانها بين الأمم والشعوب، بسن قوانين تقوم على أساس من الرحمة، يتمتع برحمتها، وعدلها كل أفرادها مسلمين، وغير مسلمين، وتيسر لأطفالها سبل الحياة الكريمة، من عيش طيب، وتعليم راق مع صيانة الأمن وتحريم الجريمة؛ لأن الله تبارك وتعالى، لم يخلق الحياة عبثا، بل خلقها سبحانه لحكمة سامية وغاية جليلة، وفتح مجال العلم للعقل الإنساني، وتعدى به أسرار الطبيعة، ليتغلغل في أسرار الحياة فقال سبحانه: "فلينظر الاِنسان إلى طعامه إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الاَرض شقا فأنبتنا فيه حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم" [سورة عبس، الآيات: من 24 إلى 32]. وخير ما أختم به قول الشاعر: تأمل حياتك من مبتداك وحتى يجيء تمام الخبر وأنت الجنين بحرز مكين حفيظ يوقيك مس القذر إلى أن خرجت لنور الحياة عزيز اللقاء بدنيا البشر ومن الله وحده التوفيق، وعليه التوكل، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.