قال تقدست أسماؤه: "يَا أَيُّهَا الَذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا هُوَ الَذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُومِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا" [الاَحزاب، 41-44]. الذكر هو منزلة القوم الكبرى التي منها يتزودون، وفيها يتجرون، وإليها دائما يترددون، وهو قوت قلوب القوم التي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا. وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به إلتهاب الحريق، ودواء أسقامهم التي متى فارقهم انتكست منهم القلوب والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب. إذا مرضنا تداوينا بذكركم فنترك الذكر أحيانا فننتكس به يستدفعون الآفات ويستكشفون الكربات، إذا أظلهم البلاء فإليه ملجأهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، وفي كل جارحة من جوارح الإنسان عبودية مؤقتة، والذكر عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة. بل هم مأمورون بذكر محبوبهم في كل حال قياما وقعودا وعلى جنوبهم، وهو جلاء القلوب وصقالها، ودواؤها إذا غشيها اعتلالها. به يزول الوقر عن الأسماع، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار، زين الله به ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين، وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته. قال الحسن البصري: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء في الصلاة، وفي الذكر، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق". وبالذكر يصرع العبد الشيطان، كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان، وهو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه. وقد ورد في القرآن على عشرة أوجه: الأول: الأمر به مطلقا ومقيدا؛ الثاني: النهي عن ضده من الغفلة والنسيان؛ الثالث: تعليق الفلاح باستعماله وكثرته؛ الرابع: الثناء على أهله؛ الخامس: الإخبار عن خسران من لهى عنه بغيره؛ السادس: أنه جل وعلا جعل ذكره لهم جزاءً لذكرهم إياه؛ السابع: الإخبار أنه أكبر من كل شيء؛ الثامن: أنه جعله ختام الأعمال الصالحة كما كان مفتتحا بها؛ التاسع: الإخبار عن أهله بأنهم هم أهل الانتفاع بآياته وأنهم أولوا الألباب؛ العاشر: أنه جعله قرين جميع الأعمال الصالحة وروحها؛ فأما الأمر به مطلقا ومقيدا فقوله تعالى: "يأيها الذين ءَامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا" [الاَحزاب، 41] وقوله "وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً" [الاَعراف، 205]. وأما النهي عن ضده فنحو قوله: "وَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ" [الاَعراف، 205]. "وَلا تَكُونُوا كَالَذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ" [الحشر، 19] وأما تعليق الفلاح بالإكثار منه كقوله: "وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [الاَنفال، 46] وأما الثناء على أهله وحسن جزائهم كقوله: "اِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ" إلى قوله تعالى: "وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" [الاَحزاب، 35] وأما خسران من لهى عنه فكقوله: "يَاأَيُّهَا الَذِينَ ءَامَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.. وأما جعل ذكره لهم جزاءً لذكرهم له فكقوله "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" [البقرة، 151] وأما الإخبار عنه بأنه أكبر من كل شيء فكقوله: "اَتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ" [العنكبوت، 45] وفي تفسيره ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذكر الله أكبر من كل شيء فهو أفضل الطاعات لأن المقصود بالطاعات كلها إقامة ذكره. الثاني: المعنى إنكم إذا ذكرتموه ذكركم فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له. الثالث: ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه فاحشة ومنكر بل إذا تحقق الذكر محى كل خطيئة ومعصية. وأما ختم الأعمال الصالحة به فكقوله في ختم الصيام "وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ" [البقرة، 184] وقوله في ختم الحج "فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً" [البقرة، 199]. وقوله في ختم الصلاة: "فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ" [النساء، 102] وأما الاختصاص بأنهم هم أولوا الألباب في قوله: "اِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ءَلاَيَاتٍ لِّأُوْلِي الاَلْبَابِ الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ" [ال عمران، 190-191]. وأما كونه قرين جميع الأعمال فإنه سبحانه قرنه بالصلاة "وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي" [طه، 13] وقرنه بالجهاد: "يَا أَيُّهَا الَذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [الاَنفال، 46]. ومعاني الذكر وفوائده في القرآن لا يأتي عليها حصر، ولكن العبرة بالعمل به، والإكثار منه، والاستمرار عليه، والتحقق بأسراره، والتحلي بآدابه، ومن أعظم آداب الذكر تمام الاستقامة ظاهرا وباطنا على منهج الكتاب والسنة لا يحيد عنه طرفة عين، ثم دوام المراقبة لخواطره وأنفاسه، ثم ملازمة الخشية لقوله تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر، 28] وكقوله صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" كل هذا مع الصدق والإخلاص، والفرار من الدعوى والخروج عن الهوى، وهيهات هيهات أن يحصل له المقام الأعلى في حضرة الذكر مع مصاحبته الهوى، إذ جل بساط الحق أن يدخل العبد حضرته ويصحبه هواه. فالمقصود أن يقف على قدم محض العبودية ومحو النفس، ودوام التعظيم والاستحضار؛ فمن أجل آداب الذكر وأسراره الاستحضار كما قال سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى" [البقرة، 259] فطلب شهود الكيفية، وأجاب الله دعاءه فحققه بسر الكيفية، وسر الكيفية يرجع إلى معنى استحضار حال الذكر، وأساس الاستحضار هو الفكرة المصاحبة للذكر "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا" كما قال أحد العلماء في إحدى وصاياه: "إخواني، أوصيكم بوصية يعود نفعها عليكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، عليكم بذكر الله في السر والعلانية، واصحبوا ذكركم بالفكرة، فإن الذكر نور، والفكرة شعاعه، وكل نور لا يصحبه شعاع لا يرى صاحبه شيئا". قال تاج الدين ابن عطاء الله: "ليس المراد من السحابة المطر، وإنما المراد من السحابة الثمر". فالذكر إذا كان خاليا من الفكرة فلا ثمرة له ولا قيمة له، والذكر إن صحبته الفكرة أثمر في الأرض الصلبة. وقال بعضهم مخالفة الهوى تنتج الأفكار، والأفكار تنتج العلم، والعلم يزج بصاحبه إلى حضرة الملك العلام. والسلام..